القِسم الثاني من الرد على [الإشكالية العلمية العويصة في الذهاب لزيارة الحسين]
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد:-
ملخَّص الوقفة الأولى:-
مرَّ في تصوير وبيان [الإشكالية العويصة على الذاهب لزيارة الحسين] ، أنْ قلنا في إيضاحها: أنه كيف يكون (ثواب الزيارة التي هي مستحبة وترخيصية وغير إلزامية) أكبر من (ثواب الواجبات الكبرى كالحج الذي هو من الإلزاميات لا الترخيصيات)؟!
وكيف يكون بعْث وتحريك الله تعالى للمكلَّف تجاه (فعل المستحب) أقوى وأشد من بعْثه وتحريكه تعالى للمكلَّف تجاه (فعل الواجب)؟!
فالذهاب للزيارة حسبما تقولون يعادِل (ألف حجة مقبولة وألف عمرة مبرورة ..) ، والحال أنَّ الحج أشد وأعظم ، فكيف تعادِل الزيارة ألف حجة وألف عمرة ، بل ألف مقبولة وألف مبرورة..؟!
فهذا يستلزم عدة أمور:
الأمر الأول: فَساد الملاك والآلية التي طرحها الفقهاء كي تمكّنه من أن يُشخــِّصوا الأحكام الشرعية الخمسة ويفرِّقوا بينها ، والتي هي: “الواجب ، والمحرم ، والمستحب ، والمكروه ، والحلال” ؛ وفساد ملاك وآلية التقسيم الفقهي يستلزِم بالتالي اختلال الرسائل العملية ومنظومة الدِّين.
الأمر الثاني: أو وجوب الزيارة لا استحبابها ، والحال أنكم تقولون بأنها مستحبة لا واجبة ، فهذا تَضارب وتناقض.
الأمر الثالث: أو غفلة واشتباه الرواة الذين نَقلوا روايات (ثواب الذهاب للزيارة) ، ومن ثم لا يمكن الاعتماد على هذه الروايات ، أو على الأقل نَرْفع عنها هذا الثواب الجسيم الهائل ، ونجعلها كبقية المستحبات بــِلا مبالغة وبــِلا كل هذا الضجيج السنوي واليومي.
الأمر الرابع: أو ضَعْفُ الأسانيد ، وكون الرواة الذين نقلوا هذه الروايات ليسوا بِثقات وليسوا صادقين ، وإنما هم اختلقوها من كيسهم الخاص وقاموا بتلفيق القضية ونَسْبــِـها لأهل البيت ليقبلها الجمهور ، ومن ثمَّ بَثــُّوها بين الناس.
بالتالي لا قيمة لهذه الروايات ولا حُجّية شرعية لها.
الأمر الخامس: أو القول بأنّ الاشتباه وَقَعَ من نفس أهل البيت ، ومن ثمَّ عدم عصمتهم.
هذا ملخص الإشكالية التي ذكرناها في (الوقفة الأولى) وبيناها بشكلٍ مفصَّل.
ملخَّص الوقفة الثانية:-
ثم في (الوقفة الثانية) ذَكَرْنا لها جواباً ، أو بعبارة أخرى قدَّمنا قِسماً من الجواب ، خلاصته: أنّنا أشرنا إلى أنّ الإشكالية علمية ومتينة ، وتحتاج للرد والعلاج العلمي المنْصِف والعادل والمنشرِح ، بعيداً عن العجلة والتعصبات وشعائر الجهل ، فالمذهب القوي الحَصين يَصمد أمام الشبهات والأعاصير ، فإن لم يستطع الصمود فهو مذهب متهالك وهَش وضعيف ، وأصحابه يَتبعون الظنون ، ويبنون منظومتهم الدينية (الفقهية والاعتقادية) على بنيانٍ متزلزل مليء بالخوف والقلق والريب والشك ، فيَصدق عليهم قوله تعالى:
{ومِنَ الناسِ مَن يَعْبُدُ اللهَ على حَرْفٍ}[1] ، وقال جلَّت أسماؤه:
{وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنــَّاً ۚ إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ}[2] ، وقال تَبارَكَ وتَقَدَّس:
{أَفَمَن أَسَسَ بُنْيانَه على تَقْوَى مِنَ اللهِ ورِضْوانٍ خيرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ على شَفَا جُرُفٍ هارٍ فَانْهَارَ بِه؟!}[3] ، وقال مراراً وتكراراً:
{أَفَلا تَتَفَكَّرون؟!} ، {أَفَلا تَعْقِلون؟!} ، وهل الحسين وبقية الائمة عليهم الصلاة والسلام يَقبَلون بأن يُنسَب لهم شيء على خلاف ما يُرضي الله تعالى الذي يأمرنا سبحانه بالعِلم وعدم العبادة على حَرْفٍ وجهلٍ وعَمَى؟!
كما أشرنا آنها –أعني في الوقفة الثانية السابقة- إلى أنّ الإشكالية تَـتضمَّن عدة إشكاليات منطوية ؛ (أصولية وفقهية ورِجالية وحديثية) و(عَقَدية) ، مما يعني وجوب الرد عليها في الجنبتين: الفقهية والعقَدية معاً ، وأنَّ الاقتصار على جنبة دون أخرى لا يحل المشكلة.
ثمَّ قَسَّمنا الإجابة إلى عدة نقاط ، فوصلنا إلى (النقطة السادسة).
ملخَّص النقطة الأولى:-
استَعرضنا في (النقطة الأولى) من تلك النقاط الست (دليلاً نَـقْـضيَّـاً) ؛ أي قَلَـبْـنا الإشكالية على الخصم ، فقلنا:
إن كانت هذه المشكلة تجري (في ثواب الذهاب للزيارة وفي قوة الحث عليها بما يصل أو يزيد على ثواب وقوة الحث نحو الواجبات الدينية الكبرى) ، إن كانت هذه المشكلة تجري في ثواب الزيارة ، فهي أيضاً تجري في غيرها من المستحبات التي تمارِسونها ولديكم اعتقاد بها ؛ وذلك من قبيل (صلاة الليل ، وصلاة الجُمُعة ، وقد أيضاً صلاة التراويح التي يَعتقد بها إخواننا السنة) ، فتوجيه الإشكالية للزيارة يستلزم توجيهها للمستحبات التي تشابهها أيضاً.
ثم ذَكَرْنا بأنَّ هذا الجواب لا يَنفع في حل المشكلة ؛ لأنه جواب نقضي جَدَلي ، غايته فقط إفحام الخصم وتوريطه بما لديه ، بينما نحن لا نريد (جواباً نقضياً جدَلياً) ، وإنما نريد (جواباً حلياً) يعالِج المشكلة من أصل ، فالإشكالية لا تتجه فقط للزيارة ، وإنما للعديد من المستحبات المشابهة لها ، فهي تعم جميع المسلمين ، فالمسلمون كلهم لديهم مثل هذه الأمور.
وبما أنّ الإشكالية تستلزم أمور خطيرة ، حيث تستلزم الأمور الخمسة التي ذكرناها ؛ لذا يجب أن نجد لها حلاً لا مجرَّد النَّقَض والجَدَل ، أو أن نسلِّم بتلك المحاذير ، ونغيِّر في عقائدنا وفقهنا ، وفي مناهجنا ورسائلنا العملية الفقهية ، والكثير من الأمور الدينية والحياتية.
هذا بالنسبة لـ(النقطة الأول) مما سبق أن طرحناه ، وقد تَبيَّن لك أنها جوابٌ هزيلٌ ليس بناجح.
ملخَّص النقطة الثانية:-
وأما (النقطة الثانية) فادَّعينا فيها بأن ملاك وآلية التقسيم الفقهي للأحكام الشرعية الخمسة ، الذي طرحه الفقهاء لتشخيص أحكام الدين عن بعضها ، ادَّعينا في هذه النقطة –الثانية- بأنّها آلية سليمة ، وقابلة لأن نطبقها على جميع الأحكام الشرعية.
لكن مع ذلك من الواضح أنَّ ادعاءنا هذا لا يحل المشكلة ، ويَستلزم بقاء بقية المحاذير (الأمور الخمسة) التي ذكرناها كنتيجة للإشكالية ، وهي:
الأمر الأول: (فساد الملاك والآلية الفقهية التي وضعها الفقهاء لتشخيص الأحكام الشرعية الخمسة ، ومن ثم فساد المناهج والنظام الدِّيني والحياتي والعديد من العقائد).
الأمر الثاني: (وجوب الزيارة لا استحبابها ، والحال أنها فيها ترخيص ، والترخيص من صفات المستحب ، لا من صفات الواجب الذي هو حكم إلهي إلزامي).
الأمر الثالث: (اشتباه وغفلة الرواة).
الأمر الرابع: (ضعف الأسانيد وعدم وثاقة الرواة وكذبهم واختلاقهم القضية ونسبها لأهل البيت ليتقبلها الناس).
الأمر الخامس: (اشتباه أهل البيت “ع” وعدم عصمتهم).
فـ(النقطة الثانية) ادّعينا فيها سلامة الآلية الفقهية التي طرحها الفقهاء لتشخيص الأحكام الشرعية الخمسة ، لكنها كما ترى لا تعالِج الإشكالية بكاملها ، حيث يتوجَّه لنا بقية الأمور الخمس ؛ أي الأمر الثاني والثالث والرابع والخامس ، فإذا لم نقدِّم حلاً فيَلزمنا أحد الأمور الأربعة الباقية.
ملخَّص النقطة الثالثة:-
ثم في (النقطة الثالثة) ذَكَرْنا علاجاً يسانِد (سلامة آلية التقسيم الفقهي) ، وهذا العلاج يَعتمد على (فكرة التخصيص) ؛ بمعنى: أنَّ ما نحن فيه هو حكم شرعي ، والأحكام الشرعية (اعتبارية) ، الله الحكيم سبحانه يعتبرها وفق مصالح يَعلمها ؛ بالتالي يمكن لنا أن نخصِّص ملاك وآلية التقسيم الفقهي فنقول:
إنَّ هذه الآلية تجري في جميع الموضوعات والأحكام الشرعية بلا مشكلة ، عدا بعض الموضوعات والأحكام ، وهي مثلاً: صلاة الليل ، وصلاة الجُمُعة ، والذهاب للزيارة ..
فنحن بهذا العلاج قمنا بتخصيص الآلية الفقهية بعد القول بسلامتها ، فأَخرَجنا منها بعض الموارد ، وقلنا بأنها تجري في كل الموارد عدا هذه الموارد المعيَّنة. ومِن المعلوم أنّ التخصيص أمر كثير الوقوع في الأمور الشرعية بطولها وعرضها ، ولا مشكلة فيه بتاتاً ، فمثلاً تقول:
كل الصلوات يجب فيها الوضوء عدا صلاة الميت فإنها لا يجب فيها الوضوء ، فأنت أَخرَجتَ صلاة الميت من تحت ذلك الحكم العام للصلوات. وتقول أيضاً: يَحرم شرب الخمر إلا في حالة إنقاذ النفس من الهلاك في الصحراء حال عدم وجود ماء لديك ، فإنّ شرْبه عند إذن يجب ، لا فقط يجوز ؛ فالتخصيص أمر متسالَم في اللغة وبين العلماء والفقهاء وفي العرف بين الناس.
وذَكَرْنا أنّ البرهان على تخصيص –مثلاً- مورد الزيارة وصلاة الليل وصلاة الجُمُعة ، هو الدليل الشرعي الوارد في هذه المسائل ، الذي بيناه في (النقطة الخامسة).
بالتالي ؛ معنى هذا العلاج أنّه في جميع المستحبات البعث والتحريك من الله تعالى للعبد تجاهها لا يساوي ولا يفوق البعث والتحريك الإلهي الذي في الواجب ، عدا موارد معيَّـنَة من المستحبات يَكون البعث والتحريك الإلهي فيها يساوي أو يفوق البعث والتحريك الذي في الواجبات ، وهذه الموارد المعيَّنة هي: الذهاب للزيارة ، وصلاة الليل و..
وكذا الثواب الذي في المستحبات لا يساوي ولا يفوق الثواب الذي في الواجبات ، عدا موارد معيَّنة من المستحبات ثوابها يساوي أو يفوق ثواب الواجبات ، وهذه الموارد هي: الذهاب للزيارة ، وصلاة الليل و..
وعليه ؛ هذا العلاج يَدفع جميع (الأمور الخمسة) التي تستلزمها الإشكالية ، غاية الأمر أنه تبقى فيه مشكلة أيضاً ، وهذه المشكلة الباقية هي ما ذكرناه في نهاية (النقطة الخامسة) ، وسنذكرها عند تلخيص (النقطة الخامسة) بعد قليل.
ملخَّص النقطتين الرابعة والخامسة:-
وأما (النقطتان الرابعة والخامسة) فهما أنّنا تَمسَّـكنا في علاج الإشكالية بـ(نظرية الاستحباب المؤكَّد) ؛ فالفقهاء ذَكروا أنَّ المستحب ينقسم إلى قسمين ، وكذا المكروه ، والمباح.
أما الاستحباب فينقسم إلى: استحباب ، واستحباب مؤكَّد ؛ أي مشدَّد.
والمكروه ينقسم إلى: مكروه ، ومكروه مشدَّد.
والمباح ينقسم على: مباح بالمعنى الأعم ، ومباح بالمعنى الأخص.
والذي يهمنا هنا المستحب ؛ فـ(المستحب) من قبيل: التوسعة على العيال في النفقة وإطعامهم لحماً يوم الجمعة ، فهو –المستحب- فيه مصلحة شديدة ، لكن لا تصل لحد مصلحة الواجب ، فمصلحة الواجب ليست شديدة فقط ، وإنما شديدة جداً ، وكذا في (المستحب) بعث وتحريك إلهي شديد موجَّه للعبد ، بسبب شدة المصلحة التي فيه ، والبعث والتحريك الذي فيه لا يصل لدرجة البعث والتحريك الذي في الواجب ، فالذي في الواجب بعث وتحريك شديد جداً ، لا فقط شديد.
بينما (الاستحباب المؤكَّد) –كصلاة الليل ، وصلاة الجماعة بعد الفراغ من مرتبتها الواجبة- فيه مصلحة شديدة جداً قريب من درجة شدة الواجب ، وفيه بعث وتحريك شديد جداً أيضاً ، مثل مصلحته الشديدة جداً ، فهو من جهة (المصلحة) و(البعث والتحريك) يشبه الواجب ويقاربه ، غاية الأمر أنَّ في (الاستحباب المؤكَّد) يوجَد ترخيص ، بينما في الواجب لا يوجد ترخيص.
وعليه ؛ من خلال التمسك بـ(نظرية الاستحباب المؤكَّد) يمكن أن نحل الإشكالية ونَدفع (الأمور الخمسة) التي تستلزمها ، لكن أيضاً لا بكاملها ؛ فـ(نظرية الاستحباب المؤكَّد) مثل (فكرة التخصيص) ، فهما تعالجان جزءً من الإشكالية ، دون الآخر ؛ ذلك لأنَّ:
(نظرية الاستحباب المؤكَّد) تفيد بأنَّ المستحب المؤكَّد يستطيع أن يَـكون كالواجب من حيث (درجة مصلحته) ومن حيث (درجة البعث والتحريك) ، بينما لا تحل لنا مشكلة ارتفاع ثواب الزيارة على ثواب الواجبات الكبرى ، ولا تحل لنا مشكلة كون الزيارة مستحبة وهي فيها كل هذا الثواب العظيم.
وبعبارة أخرى: إذا كانت الزيارة فيها هذه الشدة من المصلحة وهذه القوة من البعث والتحريك ، وفيها هذا الثواب الكبير جداً ، كيف صارت مستحبة ولم تصبح واجبة؟!
فالحكم باستحبابها رغم بلوغها مراتب الواجبات ، بل وبلوغها أعلى من مراتب الواجبات الكبرى ، يَستوجِب أن تكون واجبة لا مستحبة ، وأن يلزمنا الله تعالى بها لا أن يُشرّعها بترخيص ؛ كي لا تفوت علينا مصالحها ، مثل إلزامه لنا بالحج مثلاً ، فهو سبحانه يلزمنا به ويوجبه بسبب قوة مصلحته ، ومن ثم يرتــِّب عليه ثواباً عظيماً ، والزيارة تقولون بأنها تَجوز حتى مع وجود الخطر على النفس ووجود قتل في الطريق ، بينما في الحج تَشترطون تَخـْـلية السِّرْب وسلامة الطريق من المهالك التي لا تُحتمَل عرفاً.
وهذا يعني أنّ الزيارة تفوق الواجبات الكبرى ، في مصلحتها ، وفي بعث وتحريك المكلَّف تجاهها ، وفي ثوابها ، وفي جزئيات أحكامها ؛ مما يعني أنها يجب أن تكون واجبة لا مستحبة ، فترخيص الروايات فيها وجعْلها مستحبة يستلزِم (الأمور الخمسة) التي في الإشكالية ، ونزيد عليها أمراً سادساً ، وهو أنه إن رَفضتم استلزام أحد (الأمور الخمسة) فهذا يَستوجب أن يكون الله تعالى ليس بعادل وليس بعالِم ، وفَوَّتَ على عباده المصالح والمنافع.
إذن (نظرية الاستحباب المؤكَّد) لا تحل الإشكالية ، و(فكرة التخصيص) مثلها أيضاً ؛ والسبب في هذه نفس السبب في تلك ؛ لذا قلنا المسألة تحتاج للرد من الجهتين: الفقهية والعقَدية معاً ، وأنّ علاجها من جهة واحدة لا يكفي في الحل.
وعليه ؛ فنحن بحاجة لحل مشكلة تَساوي أو ارتفاع ثواب المستحب على ثواب الواجب ، فإن وَجدنا حلاً فَلتنا من اللوازم الخمسة ، بل الستة ، وإلا سيتوجب علينا أن نؤمن بأحد اللوازم ، ومن ثم نستتبع ذلك بالتغيير في عقائدنا وفقهنا ، وفي المناهج و…
ملخَّص أوائل النقطة السادسة:-
وبعد هذه النقاط الخمس دخلنا في (النقطة السادسة) ، حيث قمنا في هذه النقطة باقتراح بعض الحلول لمشكلة تَساوي أو ارتفاع ثواب بعض المستحبات على ثواب الواجبات الكبرى ، استعرضنا في نهايات ما سبق (الحل الأول) منها ، وتَوقفنا عنده ، واليوم نستعرِض بحوله تعالى (الحل الثاني).
ولأنَّ (الحل الثاني) له ارتباط بـ(الحل الأول) ، نستعرِض زبدةً لـ(الحل الأول) كتمهيد للدخول في الحل الجديد (الثاني) وفهمه بشكل جيد ؛ لذا نقول:
زُبدة (الحل الأول) لمشكلة تساوي وارتفاع مقدار ثواب الزيارة على مقدار ثواب الواجب:
( فكرة عدم بلوغ ثواب الزيارة درجة ثواب الواجب):-
سبق أنْ عرفتَ بأنَّ (الحل الأول) من (النقطة السادسة) يقوم على أساس ادّعاء أنَّ الزيارة –التي هي من الاستحبابات المؤكَّدة- ثوابها لا يساوي ولا يفوق ثواب الواجب ، وأنَّ قول الروايات بأنّ الزيارة تعادِل (ألف حجة مقبولة وألف عمرة مبرورة) ، لا يُقصَد به أنها تعادِل (ألف حجة من نوع الحج الواجب الذي هو من كبريات الشريعة) ، وإنما تعادِل (ألف حجة من نوع الحج المستحب) ؛ وبالتالي لا وجه للإشكالية المذكورة.
وهذا الكلام يحتاج لبراهين علمية ؛ لذا لك أن تَسأل: ما هو الدليل على كون المراد من هذه الكلمة في الروايات هو ثواب الحج الذي من قبيل (الحج المستحب) لا الثواب الذي هو من قبيل (ثواب الحج الواجب)؟
فكان الجواب أننا –هناك- قلنا: توجَد عدة قرائن تدلِّل على أنّ الثواب المراد في الروايات من الكلمة (ألف حجة مقبولة وألف عمرة مبرورة)
هو ثواب الحج الذي من قبيل (الحج المستحب) ، ويكفينا منها -أعني القرائن- قرينة واحدة ليَـثبت المطلوب ، فأهم هذه القرائن المصحِّحة لهذا الحل –الأول- والتي استعرضناها هي:
القرينة الأولى: (وجود الشك الموجِب للعمل بالقدَر المتيقَّن) ؛ بمعنى أننا نشك هل الروايات تريد الثواب الذي من قبيل (ثواب الحج الواجب) أم الذي من قبيل (ثواب الحج المستحب)؟
وما دام هنالك إجمال وشك في ذلك ؛ فهذا يقتضي –علمياً- أن نأخُذ بـ(القَدَر المتيقَّن) ، والقدَر المتيقَّن –هنا- هو أقل الثواب ؛ أي الثواب الذي هو من قبيل (ثواب الحج المستحب) ، فهذا المقدار من الثواب لا يوجَد لدينا فيه شك ؛ لأنه الجامع المشترَك المتوفِّر في الافتراضَين: (افتراض ثواب الحج الواجب) و(افتراض ثواب الحج المستحب).
فهذه القرينة –الأولى- تثبت كون الثواب المراد من (ألف حجة) هو ثواب الحج المستحب.
القرينة الثانية: (نفس ملاك وآلية التقسيم الفقهي) ؛ فالتقسيم الفقهي للأحكام الشرعية الخمسة يقوم على ملاك وآلية مفادها أنّ الواجب شديد المصلحة جداً ، والتحريك تجاهه شديد جداً ، والثواب الذي فيه كبير جداً ؛ أما المستحب ففيه مصلحة شديدة ، والتحريك تجاهه شديد ، والثواب كبير ؛ وهذا يعني أنَّ ثواب الواجب أكبر وثواب المستحب أقل منه ولا يساويه.
فهذه قرينة ثانية على كون المراد في الروايات هو ثواب الحج المستحب لا الواجب.
القرينة الثالثة: (إقران العمرة بالحج في عبارة واحدة) ؛ فالروايات قالت (ألف حجة مقبولة وألف عمرة مبرورة) ، فجَعَـلَت الألْف الأولى مع الألْف الثانية في (كلمة واحدة) ، ومن المعلوم أنّه لا توجَد لدينا (عمرة واجبة) مصاحِبة لـ(الحج الواجب) ، فهما لا يجتمعان معاً ، فالحج إذا صار واجباً فهو يَستبطِن العمرة ، وتكون العمرة التي معه واجبة ؛ فإذا كان الثواب المقصود هو ثواب من قبيل ثواب الحج الواجب ؛ فهذا يعني –مثلاً- أنَّ العبارة كأنها قالت:
الزيارة تعادِل: (ألف حجة ؛ أي ألف حجة واجبة وألف عمرة واجبة) ، وقولها: (ألف عمرة ؛ أي ألف عمرة واجبة) ، فيصير المجموع: ألف حجة واجبة + ألف عمرة واجبة + ألف عمرة واجبة ؛ أي الزيارة بألف حجة واجبة وألفَي عمرة واجبة.
وهذا التفسير للعبارة باطل ؛ لأن الحج الواجب يَستبطن العمرة الواجبة ، فأنتَ إذا حججتَ فمِن أجزاء وأعمال الحج الواجبة هو أنك تَعتمر ؛ بالتالي لا حاجة لتكرار كلمة (ألف عمرة) في العبارة.
هذا إذا قلنا بأن الثواب المقصود هو الثواب الذي من قبيل (ثواب الحج الواجب) ، وهو كما ترى باطل ويَجعل عبارة الرواية ركيكة ؛ لأنه كما قلنا إذا حملنا الألف حجة في قول الروايات (ألف حجة وألف عمرة) على إرادة العمرة الواجبة ، فهذا يَجعل الـ(ألف حجة) التي في العبارة أيضاً من نوع الحج الواجب ؛ بسبب وحدة السياق ووحدة العبارة.
فالحمل على إرادة ثواب الواجب يجعل العبارة ركيكة ومتضاربة ومتزلزلة ، بينما إذا فعلنا العكس ؛ أي حَملْنا العبارة على إرادة الـ(ألف عمرة مستحبة) ومن ثمَّ بقرينة السياق ووحدة الكلمة فسَّرنا الـ(ألف حجة) بألف حجة مستحبة مثل الألف عمرة ؛ فعندها سيكون هذا التفسير أوضح وأرجح وأسلم ، بل ومتعيِّن عرفياً وعِلمياً ، خصوصاً أنه لا يوجَد لدينا في الدِّين (عمرة واجبة) بوحدها في قبال (الحج الواجب) إلا في حالات محدودة وقليلة ، مثل حالة الاضطرار وحالة خروج الحسين عليه الصلاة والسلام مضطراً من مكة في وسط الحج دون أن يتم حجة.
أضف إليه أنّ الظاهر عرفاً من الروايات هو أنها تتكلم عن شيء ومتبادَر لدى فهم السامع وغير قليل ، لا أنها تتكلم عن المورد القليل ، وإلا كان يجب أن تقـيِّد بإرادتها لذلك المورد القليل –الذي هو العمرة الواجبة- ليَفهم السامع ويَبْلغه المراد جيداً ؛ فالروايات لمَّا تحدَّثــَت بهذه الصورة فهي تريد ما هو متبادر لدى الأفهام ، والمشرِّع إنما يَتَكلَّم للتَّبيين والتعليم ، والتبيين والتعليم يتطلَّب الكلام المتبادر معناه للفهم ، لا الكلام الذي معناه قليل ولا يَتبادر لفهم السامعين إلا بصعوبة وتَكَلُّف.
هذه ثلاث قرائن تّدعَم وتُصحِّح (الحل الأول) ، وتدلِّل على إرادة الروايات (ثواب الحج المستحب) ، وتثبت بأنَّ ثواب الزيارة أقل من ثواب الواجبات الكبرى ، وتكفينا قرينة واحدة منها ؛ ومن ثمَّ تندفع الإشكالية ؛ كونها –الإشكالية- ترتكِز على أساس أنَّ ثواب الزيارة المستحبة أكبر من ثواب الواجب ، والحال أننا أثبتنا من خلال هذا الحل أنّ ثوابها –الزيارة- لا يعادِل ثواب الواجب وإنما يعادِل ثواب الحج الذي هو من قبيل الحج المستحب.
ثم قلنا هناك –في الوقفة السابقة الثانية- بأنَّ هذا الحل –الأول- رغم كل ذلك مُشْـكِل ولا يَنفع في العلاج ؛ ذلك لأنَّ هذه القرائن الثلاث كلها باطلة ، والدليل الشرعي يرفضها ، فتَوقّفْـنا عند هذا بترك بيان بطلان القرائن الثلاث إلى حين طرْحِنا لـ(الحل الثاني) ، الذي هو مورد بحثنا اليوم في هذه الوقفة الثالثة ، وهو كما يلي.
النقطة السادسة:
(حلول مشكلة تساوي وارتفاع “ثواب المستحب المؤكَّد” على “ثواب الواجب”):-
الحل الثاني لمشكلة تساوي وارتفاع مقدار ثواب الزيارة على مقدار ثواب الواجب:
(عدم تحقُّق الشك والإجمال):-
إنّ الشك في كون الألف حجة من قبيل (الحج الواجب أم المندوب) ليس متحققاً ؛ ذلك لأن القرائن على العكس تؤكِّد على كون ثواب الزيارة من قبيل (الحج الواجب) لا الحج المستحب المندوب ؛ أَمَا تَرى كيف أنّ الروايات تتحدث عن أجر يفوق أجر (الحج الواجب) بغض النظر عن أنّ الزيارة تَعْدِل (ألف حجة مقبولة وألف عمرة مبرورة)؟
بمعنى أنه لو غضضنا النظر عن كون الزيارة تعادِل (ألف حجة مقبولة وألف عمرة مبرورة) ، وقصرنا النظر على بقية الأجر والثواب ؛ لوَجدنا أن ثواب الزيارة كبيرٌ جداً ، فالروايات لم تَقُل بأن الزيارة تعادل (ألف حجة وألف عمرة) فقط ، بل ذكرَتْ عِوضاً وأجراً غير ذاك كما بَانََ لك فيما عرضنا من روايات في الوقفة السابقة.
بالتالي ؛ يكفي في كون ثواب الزيارة أكبر من ثواب الواجبات الكبرى ، أن نَلحظ الأجر المنصوص عليه ولو بدون النظر لـ(الألف حجة المقبولة والألف عمرة المبرورة) ؛ فأنت قد تحج (حجة الإسلام الواجبة) ، لكنك لا تصافِح مائتَي ألف نبي وعشرين ألف نبي.
وقد تحج (حجة الإسلام الواجبة) ولا تكون في منزلة الشهداء يوم القيامة.
وقد تحج (حجة الإسلام الواجبة) ولا تكون ممن زار الله في عرشه.
وقد تحج (حجة الإسلام الواجبة) ولا تكون تحت لواء الحسين يوم القيامة ولا تدخل معه الجنة جميعاً ولا تكون في درجته بجوار أمه وأبيه وجده وأخيه عليهم الصلاة والسلام.
وقد تحج (حجة الإسلام) ولا تدخل الجنة قبل الناس بأربعين عاماً.
والزائر تدعو له الملائكة ، ومن يدعو لزواره عليه الصلاة والسلام في السماء أكثر ممن يدعو لهم في الأرض ، ويدعو له –الزائر- عند قبر الحسين عليه الصلاة والسلام سبعون ألف ملك شعْـثاً غُبْراً لا يغادِرون إلى السماء ، ويشيِّعـونه حتى يُبلغـوه مَأمَنه , وإن مَرِض عادُوه غُـدوةً وعَـشيّة , وإنْ مات شهدوا جنازته ، واستغـفـَروا له إلى يوم القيامة.
ويَدفع الله تعالى عنه الهدم والغرق والحرق وأكل السَّـبُـع.
وفي كل يوم وليلة يهبط مائة ألف ملك يستغفرون الله لمن زاره عليه الصلاة والسلام ويَـكتبون أسماء زائريه ، وإنَّ فاطمة بنت نبينا الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم تَـحضر لزوّار قبر ابنها الحسين عليه الصلاة والسلام فـتَستغفر لهم ذنوبهم ، والزائر يدعو له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي والأئمة عليهم الصلاة والسلام.
ويَنقلب بالمغفرة لِما مضى ويُغفر له ذنوب سبعين سنة.
ويكون ممن تصافحه الملائكة، ويكون ممن يصافحهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ويُزاد في رزقه ، ويُمَد في عمره ، ويُدفع عنه مدافع السوء ، ولم يسأل الله حاجة من حوائج الدنيا والآخرة إلا أعطاه.
وزيارته عليه الصلاة والسلام هي دخول في روضة من رياض الجنة ، وترعة مِن تراع الجنة.
ويَـكتب الله تعالى للزائر أجر ألف شهيد من شهداء بدر ، وأجر ألف صائم ، وثواب ألف صدقة مقبولة ، وثواب ألف نسمة أريد بها وجه الله ؛ أي ثواب عِتق ألف عبدٍ في سبيل الله تعالى.
ولم يَزل الزائر محفوظاً ، و لا يأتينه مكروب إلا رده الله ، وقَلَـبَه سبحانه إلى أهله مسرورا ، ويكتبه الله سعيداً ، ويَحيَى سعيداً ، ولا يموت إلا شهيداً ، وإن كان شقياً كُتب سعيدا ، ولم يزل يخوض في رحمة الله.
ومَن زاره قَلَـبَه الله تعالى ثَلِج الوجه ، ومن زاره يوم عاشورا فكأنما زار الله فوق عرشه.
و«مَن اغتسل وزاره ناداهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: يا وفد الله ، أبشروا بمرافقتي في الجنة ، وناداه أمير المؤمنين عليه السلام: أنا ضامن لقضاء حوائجكم ، ودفعِ البلاء عنكم في الدنيا والآخرة ، ثم اكتنفهم النبي صلى الله عليه وآله وعلي عليه السلام عن أيمانهم وعن شمائلهم حتى ينصرفوا إلى أهاليهم».
و«إنَّ أَدنَى ما يكون له –للزائر- أنّ الله يحفظه في نفسه وماله حتى يَرِدَ إلى أهله , فإذا كان يوم القيامة كان الله أحفظ له».
ويغفر الله سبحانه للزائر ما تَقدم من ذنبه وما تأخر ، ويخرج يوم القيامة وليس له ذنب فيُـتَّـبَع به ، وأعتقه الله تعالى من النار ، وكَتبه من الآمنين يوم القيامة ، وآمنه يوم الفزع الأكبر ، ويُروى من الحوض يوم العَطَش ، وأُعطي كتابه بيمينه.
وكان يوم القيامة تحت لواء الحسين بن علي عليه السلام حتى يدخل الجنة ، بل وكان تحت لواء الحسين عليه السلام حتى يدخلهما الله الجنة معاً.
ويكتبه الله تعالى في أعلى عليين ، ويسكنه سبحانه في درجة الحسين عليه الصلاة والسلام ، وفي جوار نبيّه وجوار عـليٍّ وفاطمة ، وكان من عباد الله المكرمين ، وأوجَب الله له كرامته ومحبَّته سبحانه.
ولزواره عليه الصلاة والسلام يوم القيامة فضلاً على الناس ؛ وفضْلُهم عليهم هو أنهم يدخلون الجنة قبل الناس بأربعين عاماً وسائر الناس في المحشر.
ويَقبل الله تعالى شفاعـة الزائر في سبعـين مذنباً ، و ينادي مناد ٍ: «أين زوّار قبر الحسين عليه الصلاة والسلام؟ فيقوم أناسٌ كثير , فيقال لهم: خذوا بيد مَن أحببتم وانطلقوا بهم إلى الجنة».
وعن محمد بن علي ماجيلويه ، عن محمد بن يحيى ، عن محمد بن أحمد ، عن موسى بن عمر ، عن علي بن النعمان ، عن عبدالله بن مسكان ، قال: «قال أبو عبد الله عليه السلام: إن الله تبارك وتعالى يتجلى لزوار قبر الحسين عليه السلام قبل أهل عرفات (فيفعل ذلك بهم) ويقضي حوائجهم ويغفر ذنوبهم ويشفعهم في مسائلهم ، ثم يثني بأهل عرفات يفعل ذلك بهم».
وفي خبرٍ آخر: «لو يعلم الناس ما في زيارة الحسين عليه السلام من الفضل لماتوا شوقا ، وتقطعت أنفسهم عليه حسرات».
وفي خبرٍ: «إنَّ زيارة الحسين عليه السلام من أفضل ما يكون من الأعمال».
وفي آخر: «ما مِن أحدٍ يوم القيامة إلا وهو يتمنى أنه مِن زوّار الحسين عليه السلام لـِـما يرى ممّا يُـصنع بزوّار الحسين عليه السلام من كرامتهم على الله».
وغير ذلك.
فكيف لو ضَممنا لكل هذا أجر (ألف حجة مقبولة وألف عمرة مبرورة)؟ بل كيف لو ضَممنا له –كما وردفي بعض الأخبار- بكل خطوة حجة؟ حتى لو قلنا بأن ثواب الألف حجة من قبيل (الحج المندوب) لا الواجب ؛ فإنه حينها لا شك سيكون (مجموع الأجر) أكبر من أجر الواجبات الكبرى.
وعندها سنكون مطالَبين وملزَمين بتقديمِ جوابٍ على القول بأنه: كيف يكون ثواب (المستحب المؤكَّد) أكبر من ثواب (الواجب الذي مصلحته أساساً أكبر من مصلحة المستحب)؟!
هذا بالنسبة لبطلان (دليل الشك) في كون المراد هل هو ثواب الحج الذي من قبيل حجة الإسلام الواجبة ، أم الثواب الذي هو من قبيل الحج المندوب؟ حيث رددناه بأنه لا يوجَد أساساً شك متحقق للاحتجاج به.
وببطلان دليل الشك ، يبطل (دليل الاستناد لملاك وآلية التقسيم الفقهي للأحكام الشرعية) ، وكذا يبطل (دليل الاستناد للاقتران في الكلمة بين الحج والعمرة وعدم وجود “عمرة واجبة” في قبال “الحج الواجب”) ؛ ذلك لأنه ثَبت كون (مجموع الثواب) الذي في الروايات أكبر من ثواب الواجبات الكبرى ، فهو أكبر مثلاً من ثواب الصلوات اليومية وأكبر من ثواب الحج …
نكرِّر: لكن هذا لا يعني أننا نقول بسقوط تلك الواجبات عن وجوبها ، كلا فهي واجبة ، والزيارة مستحبة ، والواجبات مقدَّمة عليها ، فمثلاً لو لم تكن لديك إلا مؤونة واحدة ، إما أن تذهب بها للحج وإما أن تذهب بها للزيارة ؛ فهنا يجب عليك الحج ، فإذا ذهبت للزيارة ولم تذهب للحج ، فالحج يكون واجباً عليك ولو تَسَـكُّعاً ؛ أي ولو بالذهاب مشياً والطلب وبلا مكانٍ تنام فيه هناك و… ؛ ذلك لأنه وجبت عليك (حجة الإسلام) ، لكنك فَوَّتـَّـها بسوء اختيارك ، بل وعصيت الله تعالى بالتأخير وتقديم المستحب على الواجب اللازم.
وكذا مثلاً لو أَخرتَ الصلاة الواجبة ، ولم يبقَ وقت لأدائها –قبْـل انقضاء وقتها- سوى خمس دقائق مثلاً ؛ أي مقدار وقت يكفي فقط لأدائها وإلا صارت قضاءً ، ثم لم تصلِّ بحُجة زيارة الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام وأنت بجوار قبره ، فخَرجَ وقت الصلاة وصارت قضاء ؛ فهنا أنت مأثوم ومعاقب بل ولا تُقبل زيارتك ، فالله تعالى لا يطاع من حيث يُعصَى ، ولا يُتقرَّب إليه بما يُـبَـعِّد عنه ، والصلاة عمود الدين إن قُبِلَت قُبِل ما سِواها ، وإن رُدَّت رُدَّ ما سِواها ، والحسين عليه الصلاة والسلام استشهد في سبيل الحفاظ على هذه الشعيرة العظيمة ، ولا يَقبل زيارة من يتهاون بها.
· ملاحظة: [سيأتيك أنّ ما ذكرناه مِن أجرٍ في الزيارة إنما يَثبت للزائر بشرطها وشروطها].
إبطال (دليل الاستناد لملاك التقسيم الفقهي) بغير إبطال (دليل الشك):
ثمَّ إنه يمكن إبطال (دليل الاستناد لملاك وآلية التقسيم الفقهي للأحكام الشرعية) بغير إبطال (دليل الشك) ؛ ذلك من خلال فكرة التخصيص التي ذكرناها في (النقطة الثالثة).
وكذا بـ(الحل الثالث) الذي سنذكره لعلاج إشكالية ارتفاع مقدار ثواب الزيارة –المستحبة- على مقدار ثواب الواجب.
لكنه سبق أن اتــَّضح لك بطلان فكرة التخصيص ، وعدم نجاحها في حل المشكلة.
إبطال (دليل الاستناد للاقتران في الكلمة) بغير إبطال (دليل الشك):
وكذا يمكن إبطال (دليل الاستناد للاقتران في الكلمة بين الحج والعمرة وعدم وجود “عمرة واجبة” في قبال “الحج الواجب”) بغير إبطال (دليل الشك) ؛ وذلك من خلال القول بأنه لا ملازمة بين الحج المستحَب عند اقترانه بالعمرة في كلمة (ألف حجة مقبولة وألف عمرة مبرورة) الواردة في الرواية ، فقد يكون المراد: هو أنّ للزائر ثواب ألف حجة مقبولة مِن (نوع الحج الواجب) مع ثواب (ألف عمرة مستحبة) ، فما المشكلة في تفسير العبارة هكذا؟!
لا توجد أي مشكلة بتاتاً.
هذا ناهيك عن أن العمرة تكون واجبة في بعض الحالات أيضاً ؛ بالتالي يمكن القول بأن المقصود: هو أنّ للزائر ثواب ألف حجة مقبولة مِن (سِـنْـخِ ونوع الحج الواجب) مع ثواب ألف عمرة مبرورة مِن (نوع العمرة الواجبة) ، مع باقي الثواب والأجر المذكور. إلا أنَّ هذا المراد بعيد ؛ ففيه تَـكَـلُّف ؛ لأنَّ الظاهر عرفاً من الرواية ليس ثواب العمرة الواجبة ، وإنما ثواب العمرة المستحبة ؛ ذلك لِشِـحَّــة وقلة موارد (العمرة الواجب) وندرة وقوعها مجرَّدة عن الحج.
فيبقى أنه يمكن أن يكون المراد: هو ألف حجة مقبولة من (نوع الحج الواجب) مع ألف عمرة مبرورة من (سِـنْخ العمرة المندوبة) ، مع باقي الأجر والثواب المذكور في الروايات ؛ فهذا الوجهُ وجيهٌ ويمْـكن حمل الكلمة –الواردة في الرواية- عليه.
استدراك:
طبعاً لا يـــَـخْـفَ عليك أنّنا في (الحل الثاني لمشكلة ارتفاع مقدار ثواب الزيارة على مقدار ثواب الواجب) لم نحل المشكلة لا بإبطال (دليل الشك) ولا بإبطال (دليل الاستناد لملاك التقسيم الفقهي) ولا بإبطال (دليل الاستناد للاقتران في الكلمة) ؛ ذلك لأننا بإبطال هذه الثلاثة إنما أثبتنا كون ثواب الزيارة أكبر من ثواب الواجبات الكبرى لا غير، بل أثبتنا أنَّ ثوابها يفوق ثواب الواجبات بكثير جداً ؛ مما يعني أننا لم نحل (مشكلة ارتفاع مقدار مصلحة وتحريك وثواب الزيارة المستحبة على مقدار مصلحة وتحريك وثواب الواجب).
هذا تمام الكلام في (الحلين الأول الثاني) ، وقد ثَبت لك بأنهما أيضاً لا يَنفعان.
والحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد الخلق محمد وآله الطاهرين وصحبه المنتجَبين.
أمين السعيدي
20 صفر 1435هـ-قم المقدسة
شيخ حسن
ج 16 ربیعالاول 1435ﻫ 17-1-2014م در ساعت 10:08 ب.ظالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
مساء الخير سيدنا
بحث قيم، ندر الالتفات إليه، وهو جديد من نوعه بهذه الصورة من الطرح، بأفكاره المتينة والعلمية الرصينة.
بصراحة لا أخفيك جناب السيد العزيز والحق يقال، البحث مثير للأفكار المتلاطمة والعلمية، بدقته وتماسكه وتسلسله وشموله. كنتُ قرأت في البداية الإشكالية، فانقدحت لدي بعض الإشكالات عليها، ثم قرأت القسم الأول من جوابكم عليها، فزالت بعض الإشكالات، وانقدح معها في الذهن إشكالات جديدة.
ثم قرأت القسم الثاني من جوابكم القيم، فزالت إشكالات أخرى، وظهر لي بطلان مجموعة من الحلول التي كان البعض يراها.
نتابع جناب السيد بقية أقسام جوابكم، أثابكم الله وجعله في ميزان أعمالكم بحق النبي وأهل بيته عليهم الصلاة والسلام.