التقليد فى قضية الاستهلال● السائل:
● رد سماحة السّيد أمين السعيدي حفظه الله:
بسم الله الرّحمن الرّحيم
وعليكم السّلام ورحمة الله وبركاته. من الخطأ أن نعتقد بأنَّ الاختلاف في تحديد بداية الشّهر وخصوصاً في رمضان وشوال وذي الحجة ومحرّم، نظراً لوجود مناسبات عباديّة كبرى ومهمّة في هذه الشّهور، كعاشوراء والحج والعيدين والصّيام، فضلاً وجود مناسبات إسلاميّة -مواليد ووفيّات- فيها وفي غيرها. من العناد فالاختلاف الواقع في تحديد بداية الشّهر، أو حتّى تحديد نهايته، مبني على أسس علميّة وشرعيّة تتبع الدّليل والبرهان الّذي يتوصّل إليه الفقيه المجتهد، أو تتبع المؤثّرات الجغرافيّة، أو المؤثّرات الفلكيّة الكونيّة، أو المؤثّرات الشّخصيّة لدى المستهل أيضاً. وتوضيحه ذلك كما يلي: اختلف الفقهاء -عِلمياً- حول تثبيت الهلال، هل يجوز تثبيته بالتلسكوب والآلات المعدّة لرؤية الأقمار الفلكيّة والفضاء أم يجب أن يكون التّثبيت بالعين البشريّة المجرّدة عن هذه الآلات؟ فما هو الـحُجّة شرعاً؟ وما هو الّذي يجب العمل به لاستيفاء الأحكام والعبادات والتّكليف الشّرعيّة في وقتها المطلوب شرعاً على الوجه الزّمني الشّرعي المبرئ للذّمّة؟ لاحظ نتكلّم عن الـحُجّة شرعاً، لا عن الحجّة في مجال آخر، إذ مثلاً من المتسالم عليه عند علماء الفلك وغيرهم انَّ الرّؤية الآليّة بالعين اللا مجرّدة -بالمعدّات- هو أدق وأصوب نظراً لمحدوديّة العين البشريّة وقصر مدى الملَكة الباصرة فيها. أمّا على المستوى الشّرعي فالفقيه لا شغل له بكلام الفلكي و غيره إلا في حدود ما جوّز له الشّرع؛ ذلك لأنّه يبيّن وجهة نظر الله تعالى ووجهة نظر الدِّين، تاماً كما في المريض والطّبيب المشخّص لحاله، فالدّين اعتدّ بتشخيص التّطبيب مثلاً في رفع الصّيام عن المريض إن رأى الطّبيب وجود ضرر في الصّيام منه. هكذا الأمر بالنّسبة لثبوت الهلال. والسّؤال العلمي الصّحيح هو: هل الشّرع أعطى لقول الفلكي في هذا المجال حُجّة، وهل أعطى لتلك الآلات المصطنعة حجّة في الإثبات؟ ج: الفقيه هنا يبحث في الأدلّة المعتمَدة المقرّرة في الشّريعة، وبهذا البحث يخرج بفتوى تمثّل اجتهاده. الحاصل: هو أنَّ الفقهاء لمّا بحثوا في هذه المسألة وجدوا أنَّ الأخبار والرّوايات تعاملت مع تثبيت الهلال بالرّؤية العينيّة المجرَّدة؛ لذا اقتصر بعض الفقهاء على هذه الوسيلة على أنّها القدر المتيقّن، وأنّ الشّرع يريد التّثبيت من خلالها. بينما قال البعض الآخر: بما أنَّ الرّوايات والأخبار لم تمنع من استعمال الآلات في ذلك، فالأصل أنّها محلّلة الاستعمال في هذا المجال. هذا من جهة، ومن جهة أخرى يقول هذا القسم من الفقهاء: ما هو الهدف من تثبيت الهلال؟ أليس هو تنظيم الأحكام وإيقاعها وفق زمانها الملائم مع حركة الكون؟ ج: بلا، الأمر كذلك، فالله سبحانه لما يقول لنا يوم 1 من شوال عيد، فهو يريد ذلك اليوم الكوني الحقيقي الواقعي، لا غير. ومن الواضح أنَّ التّلسكوب والآلات الحديثة المتطوّرة هي أبعد رؤية من العين المجرّدة وأدق في تحديد ذلك اليوم الكوني الواقعي، وهي الأقدر على بيان حركة القمر، كما أنّها أثبتت جدارها بقوّة منقطعة النّظير في تحديد الأمطار وما شاكل ذلك من الحقائق المستقبليّة الحسابيّة أو الحاليّة الآنيّة. بينما القسم الأول من الفقهاء يجيب: الكلام هو أول الكلام؛ كيف نعتمد على هذه الآلات وهي لا دليل شرعي على حجّيّتها؟ فالنّبي والأئمّة عليه وعليهم أفضل الصّلاة والسّلام لم يستعملوها في زمانهم، إنّما استعملوا العين المجرّدة. يجيب القسم الثّاني من الفقهاء: بأنَّ الدّليل عدم المنع والتّحريم، وأنَّ نفس عدم استعمالهم صلوات الله وسلامه عليهم إنّما كان بسبب عدم تواجد هذه الآلات بهذه الصّورة في زمانهم، وإن كانت موجودة بشكل غير مشاع وواسع، حيث كانت متداولة عند بعض الفلكيّين، فضلاً عن قلّة علماء الفلك في ذلك الوقت بين المسلمين، ولعله لو استعمل النّاس ذلك في زمانهم عليهم أفضل الصّلاة والسّلام لما منعوهم من هذا الاستعمال. هنا يجيب القسم الأوّل من الفقهاء بالقول: مادامت لم تستعمل إذن لا دليل على حجّيّتها، فالقدر المتيقّن هو حجّيّة العين المجرّدة، ولا يترك الاحتياط بالاقتصار عليها. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، ليس بالضّرورة أن يكون الهدف من تثبيت الهلال هو إثبات الوقت الكوني بالدّقّة وإثبات زمان الأحكام والتّشريعات مع زمانها الملائم بالدّقة في حركة الكون، فنحن نسلّم بإرادة التّوقيت لتنظيم الأحكام للأمّة، لكن لا نسلم بإرادة إثبات الوقت الكوني بالدّقّة؛ إذ لربّما أراد المولى سبحانه إثبات زمان التّكليف المعيّن ولو اتّفاقاً بحيث يهمّه العمل الجماعي فيها وما شاكل أكثر من التّوافق مع الدّقّة الكونيّة. أي بمعنى، أنّه قد يكون المهم هو إثبات هلال الحج مثلاً بالعين وإن كانت رؤيتها محدودة، بحيث يجتمع النّاس في تلك المناسك وتلك العبادة، لا أنّ المهم هو تحديد هلال الحج بالدّقّة الكونيّة. ومن الواضح أنَّ العين قادرة على تحقيق هذه الغاية بلا حاجة لمقرّبات ومعدّات ومساعِدات. بل ومادمنا نشك ما هو المراد على هذا المستوى، هل هو مجرّد التّعيين ولو اتّفاقاً، أو التّعيين الدّقيق المتلائم مع الزّمن الكوني الواقعي، فالمتعيّن هو آلة العين المجرّدة لا الآلات الصّناعيّة من تلسكوب وغيره؛ ذلك لأنَّها هي الّتي كانت مستعملة في زمن التّشريع، وواضح أنَّ هنالك فرق بين الآلتين، بدليل أنَّ التّلسكوب قد يرى الهلال بينما العين لا تراه، ومادامت العين كانت هي المعتمد في زمن التّشريع فالأخذ بحكمها هو الحجّة. طبعاً القسم الثّاني من الفقهاء القائل بحجيّة خبر التّلسكوب والآلات الحديثة لا ينكر حجيّة الرّؤية العينيّة المجرّدة، وإنّما يؤمن بها ويضيف إليها وسيلة أخرى، بحيث لو ثبت الهلال عنده بالعين المجرّد فهذا يعني عنده بالضّرورة ثبوته بالآلات؛ لأنَّه يستحيل أن ترى العين ما لا تراه الآلة مادامت الآلة أدق من العين، وفي المقابل لو لم ترَ العين الهلال، وتمّت رؤيته بالتّلسكوب؛ فإنّه يقول بثبوته أيضاً. إذن هو يؤمن بكلا الأمرين، ويبرّر ذلك بأنَّ الوقت المراد عند الله واحد ولا يتعدَّد، وليس هناك وقت عيني ووقت آلي، بل نفس ما تراه الآلة الفلكيّة تراه العين، غاية الأمر أنَّ العين لم تلمح ذلك إمّا لوجود خلل فيها أو وجود عوائق في السّماء كغيم يغطّي الهلال وما شاكل، فالوقت في علم الله وفي الواقع واحد، ولولا المعوقات الّتي تحصل لرأت العين الهلال كما يراه التّلسكوب، فالهلال ليس حبّة فاصوليا، وإنّما كوكب هائل ضخم الحجم. وهنا يجيب القسم الأوّل من الفقهاء بالقول: كيف يكون واحداً وأحياناً تكون السّماء صافية ومع ذلك يثبت التّلسكوب الهلال ولا تراه العين المجرّدة؟ بل وحتى حال وجود معوقات كونية من سحاب وما شاكل، فالشّرع اعتمد الرّؤية العينيّة وقال عنها حجّة، فإذا كان التّلسكوب حجّة والعين حجّة، وكل منهما له نظر مختلف في حال وجود المعوقات فكيف يكون كلاهما حجّة؟ فالعين تقول لا أرى الهلال، والتّلسكوب يقول أراه، بينما الشّرع يقيناً اعتمد العين المجرّدة. يجيب القسم الثّاني بالقول: إذا كانت السّماء صافية ولم ترَ العين الهلال ورآه التّلسكوب فالعيب فيها، فالهلال كوكب كبير. وأمّا عند وجود معوقات واختلاف النّظر بين العين والتّلسكوب فهو نفس كلامنا على أنّه المعوقات أعاقت، وّإذا وجد العائق وتيقّنّا بقرائن وسبل معيّنة بوجود الهلال خلف ذلك العائق كان يقيننا به حجّة؛ لذا نجد اتّفاق العلماء قائم على ثبوت الهلال في بلد من خلال رؤيته في بلد آخر عند كون أفقهما متّحد. لكن قد يستشكل القسم الأوّل من الفقهاء بإشكال متين يقول: إنَّ الهلال لا يغيب عن الوجود، غايته أنَّ حركته تختلف في الأفق، والتّلسكوب في كل وقت قادر على تحديد وقت الهلال، والشّرع يريد تحديد الهلال حسب الأفق القريب من البلد نفسها؛ من هنا يمكن أن نبرّر رؤية التّلسكوب للهلال في السّماء الصّافية مع عجز العين المجرّدة عن رؤية ذلك رغم عدم وجود معوّقات، ممّا يعني أنَّ الشّرع اعتبر ضمناً مقاس ابتعاد القمر عن البلد لتحديد وقت الشّروع في التّكليف والعبادة. لكن مع ذلك قد يجيب القسم الثّاني من الفقهاء بالقول: إنَّ التّلسكوب عند تعيينه لخروج الهلال فهو يعيّنه وفق دورته لا وفق المسافة، والمطلوب هو دورته، والقرآن يقول: إنَّ عدّة الشّهور عند الله اثنا عشر شهراً. وغير ذلك من الأدلّة الّتي يمكن أن نطرقها في المقام. لاحظ كيف أن الاختلاف علمي، لذا من يؤمن بإضافة الرّؤية الآليّة للرّؤية العينيّة قد يثبت لديه الهلال قبل من يعتد بالرّؤية العينيّة فحسب، فيقع الاختلاف في التّوقيت. ثمَّ إنَّ من أسباب الاختلاف هو كون المستهل قد لا يكون عارفاً بموقع خروج الهلال، خصوصاً وأنَّ الهلال يخرج في وقت خاص وزاوية خاصّة من السّماء لوقت قليل، فإذا لم يكن المستهل أو اللجنة المستهلّة متمرّسة وعارفة بهذه الأمور بشكل جيّد؛ فإنّها قد تخطئ، فتحكم بعدم خروج الهلال، بينما قد يكون خرج ورأته لجنة مستهلّة أخرى عارفة أو شخص مستهل عارف؛ فيقع الاختلاف. لهذا؛ تعتبر الوثاقة شرط في الثّبوت، سواء من جهة الصّدق في نقل الخبر، أو من جهة العلم بطريقة الاستهلال وخصائصه. أضف إليه أنَّ من أسباب الاختلاف كون اللجنة أو المستهل عارفاً بطريقة الاستهلال وموثوق وصادق، غايته أنّه حجبه حاجب في جهة استهلاله فغاب الهلال سريعاً بعد ظهوره فلم يره، بينما اللجنة أو المستهل الواقف في منطقة أخرى رآه، فهنا سيقول الجمع الأوّل وهو ثقة وعارف: لم يثبت الشّهر، بينما سيقول الجمع الآخر ثبت. أضف إليه أنَّ من الأسباب وجود مانع في نفس المستهل لا في السّماء، رغم كون ذلك المستهل ثقة وعلى معرفة، غاية الأمر أنّه غير ملتفت لوجود المانع المتحقّق فيه، سواء كان ضعف بصرٍ أو عمى ألوان خصوصاً لو كان اللون الأصفر، وما شاكل من العوائق الشّخصيّة، وبهذا لن يرى الهلال، بينما الآخر السّليم قد يراه؛ فيختلف الحكم بينهما في الإثبات. أيضاً من الأسباب اختلاف الآفاق، فالأفق من بلد إلى آخر يختلف، فقد يعتمد شخص على بلد من البلدان فيثبت خروج الهلال هناك فيعتمد ذلك، بينما لا يثبت في بلد ذلك الشّخص وفيه من لا يعتمد على البلد الآخر. ومن الأسباب أيضاً شياع الخبر الكاذب أو خبر من لا يعتد به، وما شاكل، بحيث يوجِد ذلك نوعاً من تخالف الرّؤى. أخيراً؛ يكفي في الإثبات رؤية الشّخص نفسه للهلال وتيقّنه به، فلو رآه وقالت له لجنة معيّنة الهلال لم يثبت، فعليه أن يعتمد ما رآه مادام متيقّناً برؤيته له. ومن الطّريف أنّ يوماً من الأيّام في سنة من السّنين شاع أنَّ هلال رمضان قد ثبت، فاختلف النّاس في الأمر، فمنهم من اعتمد الخبر ومنهم من لم يعمده، واليوم الثّاني كان أحد كبار السّن يقول: أنا على يقين بخروج الهلال يوم أمس، ودليلي أنَّ القمر هذه الليلة واضح الخروج وظاهر كالشّمس في رابع السّماء. لكن الكلام ليس هنا دائماً، وإنّما في تشخيص اليوم الأوّل، لإيقاع النّيّة على وجهها. إذن الاختلاف ليس ناتجاً عن عناد أو تلاعب كما يصوّر البعض ويتّهم أهل العلم، خصوصاً وأنَّ النّاس أنفسهم يستهلّون ويختلفون. والحمد لله حمداً ربِّ العالمين، والصّلاة والسّلام على رسوله المصطفى وآله الغرّ النّجبا. السيد أمين السّعيدي 22رمضان1432هـ القطيف |
للتعلیق أو مطالَعة التعلیقات اضغط هنا