لذائذ من سيرة سليل الإمام الحسين(ع): علي الأكبر
سماحة السيد أمين السعيدي حفظه الله:
وأحسن منكَ لم ترَ قَطُ عيني * وأجمل منكَ لم تَـلدِ النساءُ
خُـلِـقتَ مبــرَّءاً من كلِّ عيب ٍ * كأنكَ خُـلِـقتَ كمــــــا تَشاءُ
على أسطر صفحات الحقيقة رُسمت شجاعة بطل كان شبيه طه المصطفى خَلقا وخُلقا ، فيه تجلت أسمى الصفات ، فيك يا علي بن الحسين آيات العشق سُجِّـلَـت وتاريخ البطولات .. فيا أوتار قيتارتي انشدي ولادة سليل الحسين بين أسطر قصيدتي ، واعزفيها في اليوم الحادي عشر من شعبان على أوتار حسينية ، وسيِّرينا فرحين مستبشرين بقدوم بطل من بطولات كربلاء …
إَذِن الحسين ( عليه السلام ) لولده بعلي الأكبر ( عليه السلام ) اقتحام الشهادة . ولكن طريقة إذنه كانت فريدة ؛ .. رَفع بصره إلى السماء ، وقال :
اللهم أشهد على هؤلاء القوم ، فقد بَرز إليهم غلام أشبه الناس خَلقاً وخُلقاً ومنطقاً برسولك ، وكنا إذا اشتقنا إلى نبيك نظرنا إلى وجهه ، اللهم امنعهم بركات الأرض ، وفرِّقهم تفريقاً ، ومزِّقهم تمزيقاً ، واجعلهم طرائق قِدداً ، ولا تُرضِ الولاة عنهم أبداً ، فإنهم دعونا لينصرونا ثم عَدوا علينـا يقاتلوننـا .
ثـم صاح الحسين بعمـر بن سعد : مالَك ؟ قطع اللـــه رحمك ولا بارك الله لك في أمرك ، وسلّط عليك مـن يذبحك بعدي على فراشك كما قطعت رحمي ولم تحفظ قرابتي من رسول الله . ثم رفع الحسين صوته وتلا : { إنَّ اللهَ اصطَفَى آدمَ ونوحاً وآلَ إبراهيمَ وآلَ عمرانَ على العالمين ذرية بعضُها من بعض واللهُ سميعٌ عليم } (1) .
وهكذا أعطَى الإمام وساماً عالياً لهذا المجاهد الأمثل عند انطلاقته في عملية استشهادية فريدة . ولم يَـتفوّه الإمام المعصوم ( عليه السلام ) بحرف باطل حاشا لله ؛ إنه مصباح الهدى وسفينة النجاة كما كـُـتب على ســاق العرش ؛ فكيف ينطق بالباطل!
في واقعة مشابهة عندما برز الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى عمر بن ود العامري في معركة الخندق ، هناك أيضاً أعطى النبي له وساماً عظيماً حينما قال : برز الإيمان كلّه إلى الكفر كلّه ..
منـذ القديم كان الناس يَـعرفون بفطرتهم إمكانية انتقـال الصفات الجسدية والنفسية من الأب لأبنه أو الجد لحفيده، لكنّ البحوث العلمية الحديثة عمقت عندنا هذه المعرفة ، حينما كـَـشفت لنا عن الجينات المورثة ومدى أثرها في نقل الصفات من جيل لآخـر .
وهكذا كان علي الأكبر ( عليه السلام ) أشبه الناس برسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم) ، حيث تَـجلَّـت فيـه شمائل الرسول الكريمة . من نبرات صوته إلى ملامح وجهه إلى طريقة مشيته .
حتى إنه نُـقِـلَ أن يهوديــاً رأى في المنام رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقَـرَّر إن يعتنق الدين الإسلامي ، فجاء إلى الإمام الحسين ( عليه السلام ) فادَّعَى رؤية رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم) ؛ فسأله الإمام ( عليه الصلاة والسلام ) إن كان يعرفه لو شاهده . قـال : بلى . فطَلَـب علياً الأكبر . فلما رآه استغرَق في العجب وقال: كأنه هو .
كانت ولا تزال الأمة الإسلامية بأشد ما تكون من الشوق إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، حتى أن من الأدعية الشائعة إلى الآن بين المؤمنين الدعوة لبعضهم البعض برؤية وجه رسول الله . وهكذا كان يتسلى المسلمون في ذلك العهد حيث ملامح الرسول لم تزل معروفة عند الكثير ممن رآه أو سمع كامل وصفه ممن رآه من أصحاب الرسول ، كان يتسلى المسلمون بالنظر إلى علي الأكبر .
ولكن هذه الصورة المشابهة جسدياً ونفسياً للرسـول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أصبحت مادة ثمينة للتربية المثلى . فإذا كانت صــورة علي الأكبر شبيهة بالنبي ، فإن نفسه أشـد ما تكون مناسبة لتلقـي أخلاق الرسول أيضاً .. إنها ذهبه خالصة ، صاغتها يد الإمامة والعصمة ، يد الإمام الحسين ( عليه السلام ) سبط النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فصارت أشبه الناس خُـلُـقاً برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) . إنها شهادة عظيمة وعظيمة في أن يمتثل شخص ( من غير الأئمة ) صفات الرسول . كان الرسول هو القرآن بكل جماله وبهائه وعظمته وروعته ، ولقد وصفه الله سبحانه بأنه على خلق عظيم .
وقد سرى حتى اليوم عطر خُـلقه في حقول الإيمان حتى انتشى به كل من أراد كمالاً أو رام جمالاً . بأخلاقه العطرة ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فتح القلوب ، ومَـلَـك الأفئدة حتى قلوب وأفئدةأعداءه ..
وعلي الأكبر ( عليه السلام ) تمثل تلك الأخلاق بأبهى صورها ، فمن طلاقة الوجه ، إلى أدب المنطق ، إلى استقامة السلوك ، إلى العفو والصفح ، إلى الصبر والزهد ، إلى التقوى واليقيـن ، إلى الشجاعة والتوكل ، وبالتالـي إلى الخُـلُـق الذي هو أصل كل خُـلُق فاضل وجذر كل سمو ؛ أي الصلة بالله سبحانه .
إن بلوغ شخص درجة عالية من العلم والكمال ، لاشك فـي أهميته وصعوبته . ولكن بلوغ إنسان إلى درجة عالية من الأخلاق وبهذا المستوى الأسمى من مجاهـدة النفس واتباع الوحي ، وتمثل الرسالة كمال لا يسمو إليه كمـال .. ولقـد بلغـه علـي الأكبـر بشهـادة الإمام الحسيـن ( عليه السلام ) .
وأنا وأنت . كم نخسر لو ضيعنا فرصة العمر الوحيدة ولما نتمثل خلق الرسول ولو بصورة جزئية . إن المال والجاه والزخارف الدنيوية كلها تصحب في أحسن الفروض إلى بوابة الآخرة ؛ أي باب القبر ، بينما الخُـلُـق الفاضل يصحبنا ليكون عوناً عند سكرات الموت المؤلمة ، وأنيساً في بيت القبـر الموحش الذي لا رفيق لنا من الأحباب فيه ، وأمناً عند هول المطلَـع المخيف ، ونوراً في القيامة المليء بالفضائح والآهات ، وثقلاً في الميزان عند الحساب الدقيق الشامل ، ودرجة عاليـة في الجنان التي تهفو إليها قلوبنا المسكينة الضعيفة العاصية ، على أنه أيضاً في الدنيا نور وذكر حسن وسعادة .
ولأن علي الأكبر ( عليه السلام ) كان شاباً قمة في الخُـلُق المحمدي، فقد شهد بفضله الناس وفرض شخصيته حتى علــى أعدائه ؛ فهذا معاوية يزعم أن أولى الناس بالخلافـة إذا تجاوزت بنيأمية إنما هو علي الأكبر (2) .
وكلام معاوية لا يهمنا إلا بقدر أنه يعكس مدى انتشار ذكر علي الأكبر ( عليه السلام ) العطر في الآفاق حتى اضطر عدوه وعدو البيت الهاشمي إلى الاعتراف بفضله .
اَعني ابن ليلى ذا السُّدَى والندى * اَعنـي ابن الحســـــــــــين الفاضلِ
لا يؤثرُ الدنيـا علـى دِيـنِـه * و لا يَـبـيـعُ الحـقَ بالباطـلِ (3)
تعجز الكلمات والتعبيرات عن وصفك سيدي ،، لكن قلوبنا عشقت روحك يا سليل الإمام ،، بطولاتك في الكمال وفي الصعاب والمواجهة مع الشيطان ومع أعداء الله من الناس سَـجَّـلت لنا أوصاف طه المصطفى ومن بعده شجاعة حيدره المرتضى وإن كان الحسين ( عليه السلام ) شبَّهك برسول الإسلام العظيم ، إلا أنه قاسك في ذلك من جهة الأقربية في الصورة ، وإلا فأنت شبه علي المرتضى بنفس درجة شبهك لمحمد المصطفى ؛ إذ أنَّ علياً شبيه محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في روحه وعقله ، وشبيهُ الشبيهِ للشبيهِ شبيهُ .. “فسلام الله عليك ياسليل الشهيد .. ياشبيه الرسول وتلميذ الرسول”
“وكل عام وأنتم بخير”
السيد امين السعيدي
_____________
المصادر:-
(1)سورة آل عمران: الآيه 43،33
(2)راجع بحار الأنوار، للعلامة المجلسي رحمه الله: ج45 ص43،45 .
(3)الشاعر أبو الفرج الأصفهاني رحمه الله.
طرح وتقديم طالبة العلم عضوة الجماعة: [يا صاحب الزمان]. تصحيح وإضافات: سماحة السيد أمين السعيدي حرسه الله.
للتعلیق أو مطالَعة التعلیقات اضغط هنا