تحليل مسألة (لولاكم ما خلقتُ سماءاً مبنية ولا أرضاً ..) فلسفياً وعرفانياً
● السائل:
السلام عليكم ورحمة الله.
لدي سؤال عن حديث الكساء ..يقول الله لولاكم ما خلقت سماءا مبنية و لا أرضًا مدحية ..
هنا أن الخلق كله لاجل محمد ٍ و آل محمد ..كيف نستطيع التوفيق بين العدل الإلهي و هذه الجملة؟ و أيضا كيف نستطيع أن نوفق بين الضرورة في الخلق و هذه الجملة ؟ لأن المذكور من هدفية الخلق هي عبادة الله التي يكون بها تعمير الأرض و تحقيق السعادة و الكمال .. و هنا من أسلوب الحديث كأن الهدف الأول هو لأجل محمد ٍ و آل محمد .. هل تنتفي تلك الهدفية أو تكون في مرتبة ثانية ؟ و اذا كانت في مرتبة ثانية مالحكمة من ذلك؟
● رد سماحة السيد امين السعيدي حفظه الله:
عليكم السّلام ورحمة الله تعالى وبركاته
إنّ المقصود من: لولاكم ما خلقت سماءً مَبنية و لا أرضاً مَدْحية ..، أو بِنَصِّ تعبير الحديث في قوله تعالى: “يا ملائكتي ويا سُكّانَ سماواتي! إنِّي ما خَلَقْتُ سماءً مَبْنيَّةً ولا أَرضاً مَدْحِيَّةً ولا قَمَراً مُنِيراً ولا شَمْساً مُضِيئَةً ولا فَلَكا يَدُورُ ولا بَحْراً يَجْرِي ولا فُلْكا يَسْري إلا في مَحَبَّةِ هؤلاءِ الخَمْسةِ الّذِينَ هُمْ تَحْتَ الكِساء”، وفي رواية أخرى قدسية قال عز وجل: “يا أحمد! لولاك لما خلقتُ الأفلاك”، فالمقصود هو:
أنّ الأفلاك وما فيها من موجودات إنما خُلِقَتْ لهدف وغاية، وأنّ هذه الغاية لا تتحقّق إلا وفق شرائط ومقوّمات (تكوينيّة) و(تشريعيّة) معيَّنة؛ فالله تبارك وتعالى لم يخلق العباد والموجودات عبثاً، كما لم يخلقها لحاجةٍ منه سبحانه إليها؛ فهو الغني الخالق، وهي الفقيرة المخلوقة، والغني الخالق لا يَحتاج للفقير المخلوق؛ وبالتّالي لَـمّا كان الخَلق ليس بهدف العبث تعالى الله عن ذلك، كان لابدّ من وجود غاية حكيمة وراء الإيجاد، وهي بلا شك غاية الكمال؛ فالوجود أكمل من العدم؛ بل الوجود كمالٌ ثمين جداً، والعدم بطلانٌ مَحْض ونقصٌ مطْلَق وظلامٌ بـَحْت، يصارِع الإنسان -وحتى الحيوان- للفرار منه، ويبذل الغالي والنفيس عن الوقوع في ظلمائيته.
لذا؛ حتى الذي لا يؤمن بدِين إلهي، تجده يحب الوجود، ويطمح للبقاء، ويـَنْفر مِن الهَلاك والموت والزوال؛ فطمَحُه للبقاء إنما هو وَلِيد جوهري لحبِّ الوجود والإقرار التام بأن الوجود كمالٌ ثمين جداً وأنّ العدم نقصٌ لا شيئية فيه، وإلا لو كان العدم هو الكمال لَـما نَفرَتْ نفسه من الهلاك والموت والزوال، فهو إنما يـَبغض الهلاك والموت لأنه يـَحسَب بأنه لا يوجَد فيما بعد الموت حياة وأنّ الموت عمليةُ زوالٍ تام لا مرحلة انتقال مِن عالَم لآخر.
وكذا حتى الكثير ممن يـَعتقِدون بدين إلهي وبالآخرة، وحتى بعض الصلحاء منهم أيضاً؛ فهُم إنما الكثير منهم يـَنْفرون من الهَلاك والموت لأنهم لم يستأنـِسوا بطبيعة العالَم الآخر ولم يتذوقوه؛ فهذا أحد الأسباب الرئيسية؛ وهو يدل على أنّ الكل مقر بأنّ الوجود كمالٌ ثمين، والعدم نقصٌ مطْلَق.
وحتى الجاحد الذي تجده يـَنتحِر؛ فهو يقر بأنّ الوجود والانوجاد كمال؛ وإنما ينتحر بسبب آلام شديدة تعتريه يعانيها من أزمة أو مما حوْله، وإلا لو غضضنا النظر عن تلك الآلام وأزلناها عنه بالكامل؛ فإننا سنجده يحب البقاء ويأبى الرحيل.
وكذا أيضاً لو انتحر الذي يؤمن بعالَم الآخرة والحياة بعد الموت؛ فإنه إنما ينتحر لا لأن الوجود والبقاء ليس بكمال عظيم وثمين جداً، وإنما بسبب الآلام التي يعانيها، وإلا كيف ينتحر وهو يـَعْلَم بأنه بعد انتحاره سيذهب إلى نار الأبد التي تطَّلِعُ على الأفئدة ولَبئسَ المصير!
إذاً لا شك أنه رغم اعتقاده بالآخرة إنما انتحر لا بسبب نقص في البقاء ونيل الوجود، وإنما لعلل وأسباب نفسانية وحياتية، أو حتى لأسباب حُبِّية كفراق حبيب شديد الغلاء على فؤاده ..
نعم؛ المؤمن يحب الرحيل من هذا العالَم السُّفلي، لا سيما بالشهادة؛ ذلك لأنه يـَشتاق للعالَم العُلْوي، ويستهويه جمال وجلال الحبيب الحقيقي سبحانه، ولأنه يـَعلَم بأنّ هنالك بعد الموت وجوداً أجمل وأشد وأكثر رَيـَعاناً، وأن هذا الوجود المادي السُّفلي هالِكٌ وبـَرَّاق وزَوَّال، رحل منه أسلافه ونساهم الجميع، فهو في زهدٍ تام عنه، لا يعلِّق به قلبه، ولا يأخذ منه إلا بمقدار وحكمة.
ثمّ اعلمْ أيها العزيز؛ إنه لمّا كان الوجود يـَتطلّب شكليّة وصياغة خاصّة من التّكوين في الخلائق، وطريقة معيَّنة من التّنظيم والتّشريع؛ كان لابد من إيجاد جميع الشّرائط والعوامل المحقّقة للكمال المطلوب والغاية المرادة مِن الخِلْقة.
ومن هذه الشّرائط والعوامل -بلا ريب- هو بعْث الأنبياء والأوصياء، ولَـمّا كان محمّد عليه الصلاة والسلام هو العقل الأوّل والصادر الأول؛ وقد قال لابن عبد الله الأنصاري: “أول ما خَلَقَ الله نُورُ نبيك يا جابر”، فلَـمّا كان محمد عليه الصلاة والسلام أول ما خَلَق الله تعالى، ولَـمّا كان آله الطاهرون المطهَّرون المطهِّرون عليه وعليهم أفضل الصّلاة والسّلام هم خاتمة الأوصياء، وأكمل الموجودات بعد النبي صلى الله عليه وآله، ولَـمّا كان بهم امتداد أبي القاسم خاتم المرسلين، ولَـمّا كان بهم وبجدهم منتهى كمال البشرية، وبلوغها أقصى غاية الكمال المرجوّة، وتمام الحُجّة البالغة؛ لذا كان التّعبير بـ”لولاك لَـما خلقتُ الأفلاك” هو عيْن الحقيقة والعدالة لا خلافها؛
ذلك لأنّه لولاهم لَما تحقّقت الغاية من إيجاد الخَلق، ولَما تَحقق الكمال المطلوب الذي تَستلزمه حيازة الموجود لكمال الوجود، فهُم صلوات الأولين والآخرين عليهم كما قلنا خاتمة الرّسل والأوصياء وأمل الأنبياء ومنتهى كمال الشّرائع والرّسالات وظهور مظاهر عظمة الله سبحانه وتعالى في خلقه وتَجلّي حكمته ورُسُوّ عبادته.
ومعلوم أن قوله سبحانه: “إلا في مَحَبَّةِ هؤلاءِ الخَمْسةِ الّذِينَ هُمْ تَحْتَ الكِساء”، معلوم أن الحب والبغض عند الله تعالى إنما يـَدُورُ مدار الصلاح والفساد؛ فالله تعالى إنما يُحب الطُّهر والتطهُّر، ويـَبغَض الرِّجسية والمفاسد والعُصاة وأهل الإسراف والتبذير؛ قال تعالى: {إنه لا يُحِبُّ الـمُسْرِفين} بجميع أشكال الإسراف بما فيها الإسراف بالشرب والأكل والقتل؛ ذلك لأن الإسراف مثلاً بالقتل أشد من الإسراف بالشرب والأكل، فهو لا يحبه من باب أولَى. وقال تعالى: {إنَّ المُبَذِّرِينَ كانُوا إخوانَ الشياطين}؛ وواضح أنّ إخوان الشياطين لا نصيب لهم في محبة الله تعالى. بينما قال سبحانه بالمقابِل: {إنَّ اللهَ يُحِبُّ التوَّابِينَ ويُحِبُّ االمتَطهِّرِين} ..
وعليه؛ إنما قوله “في مَحَبَّة هؤلاء الخمسة” هو تعبير آخر موجز لهذه الحقيقة الخَلّاقة العظمى.
فالتّعبير بـ”لولاك ..” إنما هو مَثيل أن يقول صانع (العصير البودري) للماء: لولاك لما صَنعتُ العصير؛ بقصده أنّ هذا العصير الّذي مزجه بالمكوّنات وبالبودر مع الماء، والمتقوّم في طعمه وسيلانه به منشؤه الأساس في عصيريّته هو الماء؛ فلولا الماء لَـما صار عصيراً ولَـما حقّق غايته منه كمكوَّن وبودر.
فلولاك يا أحمد لَـما صَنعتُ هذا الكمال الإيجادي وهذا الجمال الوجودي.
أقول ختاماً كفائدة إضافية: فرقٌ بين أن يـَصنع سبحانه المخلوقات بعد خَلْقِه لنبيه محمد صلى الله عليه وآله، وبيْن أن يـَصنع محمداً فقط؛ ذلك لأنه عز وجل قد لا يصنع المخلوقات الأخرى، وإنما فقط يصنع محمداً فحسب. فخطابه تعالى: “يا أحمد! لولاك لَـما خَلقَتُ الأفلاك” هو تعبير يستبطِن احتمالين:
الأول: أنه لولاك لَـما خَلقتُ شيئاً ولَـما خلقتُك أنتَ أيضاً.
الثاني: أنه لولاك لَـما خلقتُ شيئاً غيرك؛ أي لولاك لَـما خلقتُ شيئاً بعد خَلقي لك.
والمتعيِّن من هذين الاحتمالين هو الثاني؛ ذلك لأنّ إيجاد النبي محمد صلى الله عليه وآله لا يـَستوجِبُ حتماً إيجاد غيره، فإيجاد الله تعالى لغير نبيه محمد صلى الله عليه وآله إنما هو تلطُّف ورحمة وإعطاء للإنسان قِسْط وكمال الوجود، بينما إيجاد النبي محمد صلى الله عليه وآله هو أمر لازم حتمي لكن دون جبر؛ ذلك لأنه الحبيب التام الكمال، والله تعالى محب للكمال التام؛ لذا نجد الله تعالى يقول لنبيه موسى (وهو من كبار الأنبياء ومن أنبياء أولي العزم عليهم الصلاة والسلام) نجده يقول له في ميعاد الوحي في وادي سيناء بمصر عند جبل الطور:
{إنّي أنا ربُّكَ فاخلَعْ نَعْلَيكَ إنَّكَ بالوادِ الـمُقَدَّسِ طُوَى}، وكذا نجد جبرئيل عليه السلام في الإسراء والمعراج لَـمّا وصل مع النبي صلى الله عليه وآله في العلُو إلى (عالَم الجبروت) توقَّف وقال: لو خطوتُ خطوة لاحترقت، بينما النبي محمد صلى الله عليه وآله أكمل وقال له الله تعالى: “طَأ العرشَ بنَعلِك”، والعرش هو جميع العوالم بينما فيها عالمه الخاص صلى الله عليه وآله؛ فوَطأ النبي محمد صلى الله عليه وآله عالَم الناسوت، وعالَم الـمُلْك، وعالَم المَلَكوت، وعالَم الجبروت، وعالَم اللاهوت.
وأيضاً إيجاد النبي محمد صلى الله عليه وآله هو أمر لازم حتمي لأن ذات الله سبحانه اقتضائية فَيّاضِيّة تَستوجِب الفَيْض، ولأن محمداً -الذي هو العقل الأول والصادر الأول- هو بالتعبير الاصطلاحي: (قديمٌ زماني).. وهذا إثباته يـَطُول يـَحتاج إلى فُصول؛ فنتركه لأبحاث عالية، ولكن أكتفي هنا بذِكرِ مؤيِّدٍ لذلك؛ وهو أنّ الحديث عَبَّرَ بـ”لولاك لَـما خَلَقتُ الأفلاك” ولم يـَقل مثلاً: لولاك لَـما خَلَقتُك أنت والأفلاك.
جعلنا الله تعالى وإياكم ممن يـَستنيرُ بنَمِيرِ نبيه الأَبـْهَج، وحَمَلنا وإياكم في سفينة أهل بيته سفينة النجاة وماء الحياة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
نسألكم الدّعاء
السيدأمين السعيدي
للتعلیق أو مطالَعة التعلیقات اضغط هنا