ابراهيم ابن مالك الأشتر
● السائل:
السلام عليكم و رحمة الله وبركاته. نريد أن نسئل سؤالًا تاريخيًا .. عن إحدى الشخصيات التاريخية ألا و هو إبن أحد قادة جيوش الإمام علي عليه السلام .. الا و هو ابن مالك الأشتر إبراهيم ابن مالك ٍ الأشتر .. كيف كانت خاتمته ؟أخير ؟ أم على خلاف ذلك .. ؟ أم غير معروف ؟ مع العلم أن له مرقد في سامراء على ما أعتقد ..
بالتوفيق نسألكم الدعاء ..
السّلام عليكم ورحمة الله، والصّلاة والسّلام على رسوله المصطفى وآله الطّاهرين، وبعد، بالنّسبة لمن سألتم عنه “إبراهيم بن مالك الأشتر” بن الحارث النّخعي اليماني المذحجي -نسبة إلى النّخع قبيلة باليمن من مذح النّخعي- فهو شخصيّة شيعيّة، وقائد بطل، شجاع، مقدام، شاعر مقتدِر، وجه من وجوه قبيلة مذحج اليمانيّة، معروف بين القوم وبين الأصحاب والعلماء وكافّة المؤرّخين القدماء، وقد ذكروه بكثرة، وتأريخه مرتبط كثيراً بتأريخ المختار الثّقفي، كونه حارب مع المختار، وكان من قادة جيشه، بل كان قائد جيشه كلّه، وحصنه، وأمينه، وعونه الأوّل. وهو –أي إبراهيم- قاتِل الملعون “عبيد الله بن زياد بن أبيه” عامل الأمويِّين في العراق صاحب مجزرة كربلاء الدّمية عليه لعائن الله، حيث قتله في معركة الخازر في شمال العراق قرب الموصل سنة 67 ه بأمر المختار الثّقفي يوم أن كان ابن زياد مع الشّاميِّين في الموصل، إذ بايع إبراهيم المختار هو وقبيلة مذحج بما لها من قوّة وسطوة ومكانة ونفوذ على إثر مرسول أبرزه له المختار الثّقفي على أنّه من محمّد بن الحنفيّة (محمّد بن أمير المؤمنين علي عليه الصّلاة والسّلام)، لذا استجاب له بعد أن استنكر عليه لوجود مدح وإطراء فيه من محمّد بن الحنفيّة لنفسه! إلا أنّه بعد أن اطمأنَّ من صدور الكتاب عن محمّد وسلامته خرج مع المختار، فقاتل الشّاميِّين ممّن عادى أهل بيت النّبوّة ودعم بني أُمَيّة.
كما قاتَل قبلهم أهل الكوفة، وحمى المختار في مواقف ومعارك ضارية كثيرة، من أبرزها عندما حمل عليه بالكوفة ابن مطيع في أصحابه، وشبث بن ربعي في ثلاثة آلاف، وراشد بن إياس في أربعة آلاف، وحَجّار بن أبجر العجلي في ثلاثة آلاف، وعكرمة بن ربعي في ثلاثة آلاف، وشدّاد بن أبجر في ثلاثة آلاف، وعبد الرّحمن بن سويد في ثلاثة آلاف ، فتتابعت العساكر نحواً من عشرين ألفاً، فكان إبراهيم حامي الحِمى، وضرغام الورى، وليث الليوث، فواجه مع المختار وصحبه القوم، ففرّقوهم، ونكّلوا بهم شرّ تنكيل، وجعلوا صفو حياتهم كدراً على ما فعلوا بالحسين وأطفاله ونسائه ورجاله وبنات الرّسالة في يوم الطّف الأليم.
بل أبرز ذلك لمّا أمر المختار إبراهيم بن مالك الأشتر بالمسير إلى عبيد الله بن زياد لإنزال الحدّ الإلهي به، فخرج في ألفين من مذحج وأسد، وألفين من تميم وهمدان، وألف وخمسمائة من قبائل المدينة، وألف وأربعمائة من كندة وربيعة، وألفين من الحمراء، أو كما قيل خرج في اثني عشر ألفاً، أربعة آلاف من القبائل، وثمانية آلاف من الحمراء، فما أن شيّع المختار إبراهيم، وما أن خرج إبراهيم متوجّهاً إلى اللعين ابن زياد حتّى وصل إلى ساباط المدائن، إلا وقد انقلب أهل الكوفة على المختار، حيث توسّموا فيه القلّة والضّعف بعد خروج إبراهيم، فخرج أهل الكوفة عليه، وجاهروه بالعداوة، ولم يبقَ أحد ممّن شارك في قتل الحسين عليه أفضل الصّلاة والسّلام وكان مختفياً إلا قد ظهر، فنقضوا بيعتهم للمختار، وسلوا عليه سيفاً واحدا، فاجتمعت القبائل عليه في الكوفة من بجيلة والأزد وكندة وشمر بن ذي الجوشن، فما كان من المختار إلا أن عاجل ببعث رسوله إلى إبراهيم وهو بساباط يطلب منه الغوث والنّصرة والعود المعجَّل، فعاد إبراهيم سِراعاً بالعدّة والعدد، والقوّة والنّجدة، يسوم النّاكثين شرّ النُّكوث، ويفي بعهده، فجدَّل أهل الكوفة، منضمّاً لمن مع المختار من جيش وعدّة، فحماه من عادية أهل الكوفة وغَدْرتهم. يومها خرج إبراهيم مرّة أخرى متوجّهاً للموصل لابن زياد يرتجز ويقول:
أَمَا وحقِّ المرسَلات عرْفا * حقّاً وحقِّ العاصفات عصفا
لنَعسفن مَن بغانا عَسفا * حتّى يَسوم القومُ منّا خَسْفا
زحفاً إليهم لا نملُّ الزّحفا * حتّى نلاقي بعد صفٍّ صفّا
وبعد ألفٍ قاسطين ألفا * نكشفهم لدى الهياج كشفا
أمّا نهاية إبراهيم فكانت على يد عبد الملك بن مروان، وذلك أنَّ إبراهيم بعد قتله لابن زياد وأحزاب الشّام معه، توجّه إلى نواحي الجزيرة وبقي هناك، فاستغلَّ مصعب بن الزّبير والي عبد الله بن الزّبير على البصرة تواجد إبراهيم بعيداً عن الكوفة، فتوجّه إليها يريد القضاء على المختار حسداً منه له، فأرسل رجاله إليها يخوّف النّاس من الفتنة، ويأمرهم بالمبايعة سرّاً لأخيه عبد الله بن الزّبير المقيم بمكّة حاكماً على المسلمين، فعزم المختار على الخروج بنفسه مع من بقي معه من أهل الكوفة لمواجهة مصعب المتوجّه للكوفة بالجيش والخيل والعدّة، فقتل المختار ابن الأشعث وشبث بن ربعي وسائر من معهما، إلا أنَّ أهل الكوفة غدروا به وتسلّلون من جيشه، فلم يبقَ معه إلا نفرٌ قليل، فدخل قصر الإمارة، وتمَّ فيه محاصراً حتى نفذ صبره، ولم يجد من يوصل كتابه إلى إبراهيم بن الأشتر، فخرج من القصر في تسعة عشر رجلاً يواجه جيشاً جرّاراً، فحَمل على أصحبا مصعب، ولم يزل يقاتِل حتى رزقه الله بالشّهادة في النّصف من شهر رمضان سنة سبع وستين كما ذكر بعض المؤرّخِين، فاحتزَّ رأسه، وأرسله إلى أخيه عبد الله بن الزّبير بمكة.
فلمّا سمع إبراهيم بمسير مصعب إلى الكوفة، ولم يأته خبر ولا أثر قبْل ذلك، تحرّك من نواحي الجزيرة يريد الكوفة لإدراك المختار، فدخل على مصعب من مسير إبراهيم إليه هلعٌ جسيم، وخوفٌ عظيم، ممّا جعله يرسل لإبراهيم الرِّجال والكتب بالعهود والمواثيق المغلّظة، والأمان على نفسه وماله وجنده، وتوليته ما تحت يده من الأعمال، فوثق به إبراهيم وبايع لعبد الله بن الزّبير، ولم تطل المدة لمصعب بالكوفة حتّى خرج إليه من الشّام عبد الملك بن مروان الأموي متوجّها إلى الكوفة، فخرج إليه مصعب في أهل العراق وابن الأشتر ومن معه في جيش عظيم حتّى التقيا، فوقعت بين جيش العراق وجيش عبد الملك بن مروان الحرب، ولم تزل كتب أهل الشّام تتوارد على أهل العراق، حتّى خذل أهل العراق مصعباً وقتلوه، يومها قُتِل إبراهيم بن مالك الأشتر أيضاً.
وزبدة القول هي أنَّ إبراهيم طَعن فيه البعض كما طعنوا في المختار الثّقفي، كل ذلك بهدف تشويه حركة المختار، والتّقليل من منزلة مالك الأشتر والد إبراهيم ووالي علي عليه الصّلاة والسّلام على بلاد مصر، وقد مدح علماؤنا إبراهيم كثيراً، ترضّوا عنه، وترحَّموا عليه، ونسجوا فيه أبياتاً كثيرة لقتله الأعمى “ابن زياد” لا بصّره الله في أخراه، وقد كتب عنه علماؤنا كثيراً كما كتب عنه علماء أبناء العامّة من إخواننا السّنّة، ومن أبرز ذلك ما كتبه العالم النّحرير المبجَّل “ابن نما الحلّي” عليه الرّحمة والرّضوان، الّذي كتب كتاباً قيّماً في حركة المختار سمّاه “ذوب النّضار”، وتوصَّل فيه إلى شرعيّتها، فذكر فيه خبر إبراهيم مفصّلاً إلى حين وفاته، وهذا الكتاب القيِّم المشتهِر هو من الكتب الّتي نقلها العلامة المجلسي في بحاره، كما نقل منه كثير ممّن أتى بعده، كالسّيد محسن الأمين في كتابه “أصدق الأخبار”، وغيره.
وكذا كَتب الشيخ المعروف “ميرزا محمد علي الأوردبادي” قصيدة طويلة يمتدح فيها المختار وإبراهيم لعونه له، ذكرها الشّيخ الأميني في “الغدير” عند ترجمته للميرزا محمّد الآوردبادي” نزيل النّجف صاحب كتاب “الحديقة المبهجة”، بل ألّف فيه –أعني الميرزا محمّد- كتاباً سمّاه “حياة إبراهيم بن مالك الأشتر” ذكره فيه بالجزيل من الإطراء والثّناء. وقد تعرَّض لذكر ذلك “آغا بزرگ الطّهراني” في كتابه “الذّريعة”.
وكذا تَرجم إبراهيم بن مالك الأشتر “الشّيخ علي النّمازي الشّاهرودي” في كتابه “مستدركات علم رجال الحديث”، فذكره بما فيه المديح والثّناء أيضاً، كما ذكره تأريخه الطّبري والذّهبي والزّركلي وغيرهم، فاعتبره الكثير من أبناء السّنّة من الرّجال المعتمَدِين.
نعم؛ نظرُنا الشّخصي فيه أنّه في آخر أيّامه بايع مصعب بن الزّبير على مبايعة عبد الله بن الزّبير، لكن يظهر لي –إن صحَّ ما نقله المؤرِّخون عنه- أنّه ما فعل ذلك إلا لأنَّ عبد الملك بن مروان كان يواجِه عبد الله بن الزّبير الّذي استولى على الحجاز وبعض مناطق العراق وما جاورهما، فكان إبراهيم يريد القضاء على بني أميّة وحكمهم المتمثّل في عبد الملك بن مروان، ومواصلة ثورة المختار، خصوصاً وأنَّ الحملة في البلاد الإسلاميّة بعد أن قُتِل المختار كانت بين الإثنين، بين عبد الملك بن مروان وعبد الله بن الزّبير، حيث كان كل منهما ينازِع الآخر على الخلافة، فبسبب كون إبراهيم صاحب وجاهة ومكانة، وبسبب مطاردة الأمويّين والزّبيريّين له، وإرادته تحقيق أهداف ثورة المختار، انضمَّ لجيش الزّبيريّين يحارب الأمويِّين بعد أخذه المواثيق المغلَّظة من مصعب والي عبد الله بن الزّبير على العراق، فالأمويّين في تلك الفترة كانت شوكتهم وقوّتهم في توجّه كامل للحجاز والعراق، وقد فعلوا ببيت الله وحرم رسوله والقُرّاء والفتيات ما فعلوا.
فعبد الله بن الزّبير وإن كان ثقله موجّه للأمويّين وبني هاشم على السّواء، بحيث كان ينكِّل بالهاشميِّين أشدَّ تنكيل، ويَنال من علي عليه الصّلاة والسّلام حنقاً وبغضاً منه له بسبب قتله الزّبير في حادثة الجمل، لدرجة أنّه كانت له سِجالات كلاميّة بذيئة وطويلة مع محمّد بن الحنفيّة ومع ابن عبّاس في مكّة، بل لدرجة أنّه حبس عدداً من بني هاشم منهم محمّد بن الحنفيّة في سرداب قرب بئر زمزم في مكّة، فما خلّصهم يومئذ إلا المختار الثّقفي، فعبد الله بن الزّبير وإن كان ثقله موجّه للأمويِّين وبني هاشم، إلا أنَّه لم تكن له تلك السّلطة والقدرة عليهم، خصوصاً أنّه كان يتحلَّى ظاهريّاً بالإسلام وأحكامه، بينما كان عبد الملك بن مروان لا يأبه بشيء، والحرب كانت بادئ بدء بين المختار وبني أميّة، بمعنى آخر بين إبراهيم وبني أميّة، فكان التّماسك بين إبراهيم ومصعب ضدّ بني أميّة في نظر إبراهيم أولى من قتْل مصعب بعد قتله للمختار وحدوث الحدث؛ خصوصاً وأنَّ نفوذ عبد الله بن الزّبير كان كبيراً، وأهل الكوفة قد تخاذلوا عن النّصرة ونقضوا بيعتهم للمختار وبالتّالي انعكس ذلك على إبراهيم قائد جيشه؛ لذا جاء نظر إبراهيم على المواصلة ضدّ جيش الشّام وعبد الملك بن مروان إلى أن يُحدث الله حدثاً تتغيّر فيه الأمور، إلا أنّه وافته المنيّة في تلك المواجهات.
فالرّجل اجتهد في أمره، وهو نزيه الجيب، مخضرّ الجناب، وله يد نافذة جاهد بها أعداء آل محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، لا سيّما أنّه سرَّ بنات الرّسالة والإمام علي بن الحسين عليه الصّلاة والسّلام برأس “ابن زياد” أرداه الله في سقر، وأدخل على قلوبهم المحترقة الفرح والسّرور، فرحمه الله ورحم أباه وأمّه، ولنعم ما قال فيه “ابن نما الحلّي” عليه الرّحمة في كتابه “ذوب النّضار” ص85:
(وكان إبراهيم بن مالك الأشتر مشارِكاً له في هذه البلوى –يعني معارك المختار الّتي امتحنه الله بها- ومصدِّقاً على الدّعوى، ولم يكُ إبراهيم شاكّاً في دِينه، ولا ضالاً في اعتقاده ويقينه).
نسألكم الدّعاء
السيد أمين السّعيدي
21شعبان1432هـ
للتعلیق أو مطالَعة التعلیقات اضغط هنا