مع لؤلؤةٍ في بحرها الأسود
كتابة: السيد أمين السعيدي
أرأيت لؤلؤةً يشعُّ منها الجَمالُ بأصدافها المسْوَدّة؟
ما سر جمالها الذي يجعل منها تتزين بسوادها؟
تلألأَتْ ببهائها فأبهرت العقول ، وأصبحت سراً على جيد الفتاة التقية الصالحة بما كساها الله من جمالٍ وكمال.
فالسر فيها يظهر من أمنا فاطمة.
السر في العفة الحقيقية التي تزهو بأعماق جوهرها ، السر بما انعكس عليها من فعلها وقولها صلوات الله وسلامه عليها في جوابها لنساء المدينة عندما سألنها -وهي فَتاةٌ صغيرة- عن أفضل الأمور للمرأة فأجابت:
خير النساء لا ترى رجلاً ولا يراها رجل أجنبي.
فإذا كان هذا الحديث -كما يذهب البعض- ضعيفاً في سنده ، فهو رغم ذلك يوافِق واقع الأحكام وصميم نص القرآن في قوله تعالى:
{يا أيُّها النبيُّ قُلْ لِأزواجِكَ وبَناتِكَ ونِساءِ المؤمنِينَ يُدْنِينَ علَيْهِنَّ من جَلابيبِهِنَّ ذلكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فلا يُؤْذَيْنَ}[الأحزاب: 59] ؛ حيث إنّ الحرائر كما يَنقل المؤرخون والمفسرون كان يَشتبِه أَمرُهن على الرجال بَيْنهن وبَيْن الإماء العبيد ؛ فيَقعن -الحرائر- في الأذى من ذلك ؛ فصانهن الله تعالى عنهم بتمييزهن بالغطاء خلافاً لواقع العبيد آنذاك حيث يرادون للرِّقِّ ببيعهم وشرائهم والعمل مما يَستلزم ضرورة إبراز أوصافهم وامتيازاتهم بشكلٍ جَلي .. فجرى النص الإلهي على نحو الأمر للمرأة الحُرَّة حمايةً لها عن أن تقع في أي ضرر من الرجال الأجانب مما لا يقع للعبدة باعتبار طبيعة واقعها وعُرف تلك الأحوال ؛ بالتالي يقاس هذا الحال على نظائره ومَثائله ؛ إذ الحُكْم هنا معلَّل وعِلته هنا منصوصة -وهو من الأمثلة العلمية الجيدة للقياس منصوص العلة التي يمكن الاستفادة منها في هذا المضمار- بل ما بالك أيضاً بالضرر الأشد -سيّما في هذا العصر- كما هو واضح لكل بصير أَنصف نفسه وأَنصف الآخرين ؛ بالتالي بناءً على حُجّيّة قياس الأولوية وهو من الأقيسة العقلية المنطقية يَكون إدناء الجلابيب عليهن أيضاً من باب أولَى مأمورٌ به ، وأشد ضرورة.
فهذه الآية تثبت من الحديث المذكور جهة (كون المرأة لا يراها الرجال).
فإن قلتَ:
الآية وافقَت جهة من الحديث دون الجهة الثانية ؛ فهي أَثبَتَت جهة أن لا يراها الرجال ، لا جهة أن لا تَرى هي الرجال ؛ مما يعني أن الحديث قاصر عن أن توافِق الآية جهته الثانية ..
فالجواب:
إن الآية نفسها تَستبطن ذلك أيضاً ؛ وهذا يتضح ببيانين:
البيان الأول:-
تَستبطن ذلك لأنه إذا كان للرجل توجُّه فطري وشهواني سلبي تجاه المرأة مما يَمنع من تمكينه من رؤيتها صوناً لها عن الأذى الذي يمكن أن ينعكس عليها بما لا يتوافق مع فطرتها ومشاعرها .. ؛ فالمرأة لها توجُّه فطري وشهواني مثل ذلك أيضاً ؛ لأن كل منهما إنسان والتكوين الفطري والبشري من هذه الناحية واحد بلا فرق ولا يُمْكِن الردع من جهة دون أخرى وإلا لم يَكُن للغطاء قيمة في واقع الازدراء ومن ثم يَحصل الخروج عن فاعليته الواقعية.
البيان الثاني:-
إن رؤية المرأة للرجال الأجانب بالعادة تَستتبع رؤيتهم لها ؛ فالطريق ومواقع الاجتماع أماكن عامة .. ؛ بالتالي رغبتها لرؤيتها لهم تَستتبِع بالعادة رؤيتهم لها ، فيعود الأمر لنفس ما أثبتته الآية بشكل صريح ، مما يعني موافقة وشمول الآية للجهة الثانية من الحديث المذكور من جهة استلزام هذا لذاكَ عادةً -والقوانين إنما تُصَب على حالة العادة ثم لكل قاعدة تخصيصات- فالرجال الأجانب يَرون المرأة عندما تَخرج لرؤيتهم فتراهم ، إلا أن تكون محجبة حجاباً ظاهراً وباطناً بما يخفي صفاتها عنهم.
طبعاً هذا لا يعني أن المرأة يَحرم عليها الخروج من البيت لقضاء حاجتها أو للنزهة مثلاً ، كلا ، فلو كانت ممنوعة من ذلك لانتفت قيمة الحجاب أساساً ؛ لأنه لا داعي لذكر الحجاب ما دامت ممنوعة من الخروج من أساس ، وأزواج النبي صلى الله عليه وآله ، وبناته ونساء المؤمنين في الآية خطاب عام لكل النساء ، فلو كان هنالك منع من الخروج أو حتى مجرد تقييد لدائرةٍ طبيعيةٍ منهن لَمُنعن عن ذلك قبل غيرهن باعتبار أولائيتهن وتمثيلهن القدوة على خط امتثال أشمل الحالات في هكذا أمر .. ، وهذا ما لم تفعله حتى الزهراء عليها الصلاة والسلام رغم كونها بنت مباشرة لرسول الله صلى الله عليه وآله ، فهي عليها الصلاة والسلام لم تَمنع نفسها من الخروج لغرضها السليم ، وكذا نساؤه صلوات الله وسلامه عليه وآله ، حيث خَرج بهن بنفسه صلى الله عليه وآله لغزواته وغير غزواته ، كما -أيضاً- فَعلن ذلك نساء صحابته على مرأى من عينه في زمن حياته صلوات الله وسلامه عليه وآله ، فلم يَصدر منه المنع أو النهي عن خروجهن لأغراضهن الحياتية والشخصية والترفيهية ..
إذاً؛ هذا لا يعني أن المرأة يَحرم عليها الخروج من البيت لقضاء حاجتها ووظيفتها وواجباتها أو للنزهة مثلاً ، بل يعني أن المرأة الباحثة عن الصَّون الأتم والكمال الأقدس ، الأحسن والأكمل لها أن لا ترى الرِّجال بمعنى أن لا توجِّه نظرها لهم رغم أنه -حسب الفرض- نظرٌ ليس من النوع الرّيبي المحرَّم الذي من قبيل نظر المتزوجة لرجل غير زوجها بهدف الفجور .. ، فالأحسن والأكمل لها أن لا ترى الرجال بمعنى أن لا تُوَجّه نظرها لهم سواء في طريقة لباسها واختيارها لنوعية ولون وطبيعة عباءتها ، أو في طريقة حديثها ، أو في طريقة مشيها .. حال خروجها لأغراضها وأداء واجباتها بإذن ولي أمرها (أبيها قبل الزواج وبعلِها بعد الزواج).
وكذلك يعني أن لا يراها الرجال بصورة مشينة تثير قِيَمَهم الحيوانية ، بحيث ينظرون لها على أنها مجرد قضية شهوة ، لا قيمة لها غير ذلك ، ويكون الطريق العام محطاً للإثارات … ومن ثم يتسبب بالأذى لها ولو مع التراكمات ويتسبب بإشاعة الانحراف والفوضى ومن ثم انسحاب الأذى على غيرها ..
فالمرأة قيمتها أعلى وأسمى وأرفع ، وكيانها مرتبط بالمعنى الإنساني ككل ، لا بالمعنى الحيواني فحسب ؛ فهي أم البشرية ، ومدرسة الشعوب ، وفيها وعاء تكوين الأنثى والذكر ، ومنها ينطلق الوجود البشري وبدونها ينعدم ويَتلاشى ويَفنى.
هكذا كان منطق الزهراء عليها الصلاة والسلام وهذه غايتها ؛ إنها بعمقِ نظرتها أعظم مدرسة شَيَّدت رسالة الحجاب السامي عملياً وقولياً ، بكل إخلاص وصدق ، ودون أي خضوع وانجراف وراء ميول النفس ورغباتها التي تعمي عن قول الحق أو الخضوع له ، مما أهَّلَها صلوات الله وسلامه عليها لأن تُخَرِّج لنا أمثال زينب القديسة العفيفة المصونة التي لم يَكُن يُرَى ظِلّها عند خروجها كما ذَكر أهل السِّيَر ، حيث كان يَحوطها بنو هاشم عند خروجها ومن بينهم أخوها العباس عليه الصلاة والسلام ، إذ يغطي ظلهم ظلها عند سيرهم حولها ، فلا تُعرَف صفتها للرائي الأجنبي.
دفْعُ اشتباه القصد وبيان المقصد الآخر للحديث:
إنّ الذين توجهوا نحو إبطال هذا الحديث من منطلق عدم وصوله بسند متوافق مع قواعد علم الرِّجال ، إنما حصل لديهم هذا التوجه لأنهم فهموا أن مقصوده منْعُ المرأة عن الخروج من البيت كي لا ترى رجلاً أجنبياً ولا يراها رجل أجنبي ، وهو تشددٌ غير مبرَّر ولا يتوافق مع الدين وطبيعة الحياة سيّما في هذا العصر الذي أَخَذَت فيه الأمور شوطها الواسع من الانفتاح ..
إلا أنه اتضح لك من البيان المتقدم أن المَقصد أَبعَد وأعمق من هذا ؛ وهو بيان للحد الأقصى الواجب. بل حتى هذا المَقصد هو مقصد فائق وسليم ؛ ذلك لأن الحديث بهذا المعنى يَحث من هذه الناحية على الحال الأَزهَد على الأَتقَى يتكلم عن الأفضل عن الأحسن عن الخير الأكثر ؛ أي مبدئياً المستحب -لا الواجب- هو أن لا تخرج من بيتها ؛ ذلك لأن عدم خروجها -هو بما هو من حيث مَنطق حركة المكوَّنات- يحقق هذا الهدف بنحو أتم وأكمل وأضمن وأحسن عفافاً ، مع لحاظ أنه لا يُمْكن مَنْع الرجل بدلاً منها عن الخروج ؛ ذلك لأنه تبعاً لطبيعة تكوينه مطالَب شرعاً وإنسانياً بالمسؤوليات والوظائف الشاقة تجاه زوجته وعياله والمجتمَع وعليه السعي نحو أسباب العيش وراحتهم وأمنهم واستقرارهم .. ؛ لذا أُثِر عنها سلام الله عليها في إطار المشاركة في المسؤوليات الزوجية وتنظيمها قولها بما معناه: الحمد لله الذي جعل أبي محمداً يَقسم لي ما قبل الباب ولعلي ما بعد الباب. وما ذلك إلا لأنه وضعٌ للأمور في نِصابها الأحسن الأفضل.
وكذا مع الحفاظ في ذات الوقت على أَحقّيّة المرأة في الخروج لقضاء حوائجها الضرورية -كالعلاج وتغيير الأجواء بالنزهة الضرورية التي تتطلبها نفسيتها كإنسانة عند حاجتها لها وكرغبتها في الأهداف الممدوحة مثيل التدبر في صنيع الله تعالى ضِمْن إطارٍ خاص ..- مع رعايتها التامة لعَفافها وحجابها الكامل المحكوم بالوجوب. وأن خروجها في هذه الحالة مع صائنٍ لها أيضاً أفضل وأحسن تماماً كما كانت تفعل الزهراء وزينب عليهما الصلاة والسلام عند خروجهما لغرضٍ ما ، كما نَعلم أن الزهراء سلام الله عليها لما خرجت أيضاً مضطرة إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وخَطَبت في صحابته خرجت في لُمّة من نسائها ولم تخرج بمفردها وكلَّمَتهم في المسجد من وراء ستار ، بل وكانت عندما تكلم رجلاً مضطرةً جاء إلى دارها فإنها تجيبه من وراء الباب ولا تشرع الباب فتراه ويراها رغم اشتمالها بحجابٍ كاملٍ ؛ إذ لكل فعلٍ مراتب كمالية ، ولكل نحو من هذه الأنحاء كذلك مراتب ، والمؤمنات على درجات ؛ فمنهن من تسعى لأعلاها وأقصاها مثل الذي يصلي الصلاة بوجوباتها ومستحباتها .. ومنهن من تقتصر على حد الواجب حداً بحد مثل الذي يصلي الصلاة لا يَتجاوز مجرَّد وجوباتها فحسب .. ، ولكل واحدة منهن منزلتها عند المؤمنين والمؤمنات وطلاب المراتب العالية .. ولكل منهن مقاماتها عند الله تعالى في حُصص فيضه وبركاته ولطائفها ومِنَحِه وعطاياه واختصاصاته لعباده. فسلام الله على الزهراء حيةً في دار الدنيا ودار الآخرة ، ورزقنا الله وإياكم الصدق في الاقتداء بها لنيل شفاعتها الخالدة الأبدية.
(ملاحظة: لهذا الموضوع مَزيد بيان وتوضيحات فتراجَع أبحاثنا في حقوق المرأة حيث لا يعني ذلك التشدد والخروج عن حد الوسطية والاستواء).
أمين السعيدي – القطيف
1 جمادى الثاني 1434هـ
للتعلیق أو مطالَعة التعلیقات اضغط هنا