أشهَر مناظَرات الرضا (ع) القاصمة
طرح وتقديم طالبة العلم العضوة الفاضلة: 【يا صاحب الزمان】
مراجَعة وتصحيح سماحة: السيد أمين السعيدي حفظه الله
ألا أيّـها القبـــرُ الغـريب مَحلُّـهُ * بطوسِ عليكَ الساريانُ هَتُونُ
أيا عجَباً منهم يُسَمّونك «الرضا» * وتَـلْقاكَ منهم كَلْحةٌ وضغـونُ!
أتعْجـب لـلأجلاف أن يتحيّـفوا * معالمَ دِينِ الله وهــو مُـبـيْنُ!
لقـد سَبقَت فيـهم بفـضلِك آيةٌ * لديَّ، ولـكن مـا هـناك يقينُ
على أعتابك يطوف الحمْيُ حول قبتك يرجون رحمة الله بعطفك .. فيا قبةً تشرفت بذكر رئيسها ملائكة السماء .. وتنَـزَّلت تحفوا بذاك الضريح معزين بالمسموم الرضا عليه السلام .. ويا رايةَ أسىً رفرفت تنعى بها مؤسَّسة أنبياء أولي العزم غريب الديار ، معزيةً من تنحني له رؤوس الموالين عجل الله فرجه ، والمراجع العظام والمؤمنين في كل الأنحاء ، فعظم الله لكم الأجر جميعاً.
لقد اهتم الإمام الرضا (سلام الله عليه) أهتماماً عجيباً -بكل ما للكلمة من معنى- ببيان العقيدة الإسلامية ككل والدفاع عنها ، فمناظرة الإمام (عليه الصلاة والسلام) مع زعماء الديانات والمذاهب في مجلس المأمون بن هارون اللا رشيد العباسي كانت الشهيرة والفريدة من نوعها ، واَقـْـطَـع وأيقن دليل على تصدي الإمام (صلوات الله وسلامه عليه) ، في ظل استهداف المأمون لاختبار الإمام (عليه السلام) ومحاولة إظهار كذبه المزعوم وعجزه العلمي وإحراجه.
فقد روي أن الإمام (عليه السلام) لما دُعي إلى مجلس المناظرة التفت إلى النوفلي فقال:
يا نوفلي! أنت عراقي ورِقــَّـة العراقي غير غليظة ، فما عندك في جمع ابن عمك علينا أهل الشرك وأصحاب المقالات؟! فقلت: جعلت فداك يريد الامتحان ويحب أن يعرف ما عندك. ثم قال (عليه السلام) بعد ذلك:
يا نوفلي! أتحب أن تعلم متى يندم المأمون؟ قال النوفلي: نعم. فقال: إذا سمع احتجاجي على أهل التوراة بتوراتهم ، وعلى أهل الإنجيل بإنجيلهم ، وعلى أهل الزبور بزبورهم ، وعلى الصابئين بعبرانيتهم ، وعلى أهل الهرابذة بفارسيتهم ، وعلى أهل الروم بروميتهم ، وعلى أصحاب المقالات بلغاتهم ، فإذا قطعتُ كل صنف ، ودحضت حجته ، وترك مقالته ورجع إلى قولي عَـلِمَ المأمون الموضع الذي هو سبيله ليس بمستحق له ، فعندها تكون الندامة ، ولا حول ولا قوه إلا بالله العلي العظيم.
وقد جاء في المناظرة حين اُقيمت أن الإمام (عليه السلام) التفت إلى رأس الجالوت فقال:
يا يهودي! اَقبــِـلْ عليَّ أسألك بالعشر الآيات التي اُنزلتْ على موسى بن عمران هل تجد في التوراة مكتوباً بنبأ محمد وأمته: “إذا جاءت الأمة الأخيرة أتباع راكب البعير يُسَبحون الرب جداً جداً تسبيحاً جديداً في الكنائس الجدد ، فليفرغ بنو إسرائيل إليهم وإلى ملكهم ، لتطمئن قلوبهم ، فإن بأيديهم سيوفاً ينتقمون بها من الأمم الكافرة في أقطار الأرض” ، أهكذا هو في التوراة مكتوب؟
قال رأس الجالوت: نعم إنـّـا لنجده كذلك. ثم قال للجاثليق: يا نصراني كيف علمك بكتاب شعيا؟ قال: أعرفه حرفاً حرفاً. فقال لهما (عليه السلام) :
أتعرفان هذا من كلامه: “يا قوم إني رأيت صورة راكب الحمار لابساً جلابيب النور ، ورأيت راكب البعير ضوؤه مثل ضوء القمر” ؟ فقالا: قد قال ذلك شعيا.
وجاء في المناظرة أن عمران الصابي قال للإمام (عليه السلام) : أخبرْني عن الكائن الأول وعما خَلَق. فقال له (عليه السلام) :
سألتَ فافهمْ ؛ أما الواحد فلم يزل واحداً كائناً لا شيء معه بلا حدود وأعراض ، ولا يزال كذلك ، ثم خَلَق خلقاً مبتدعاً مختلفاً بأعراض وحدود مختلفة ، لا في شيء أقامه ولا في شيء حَدَّه ولا على شيء حَذاه ومَـثّـله له ، فجَعل الخلق من بعد ذلك صفوة وغير صفوة ، واختلافاً وائتلافاً ، وألواناً وذوقاً وطعماً ، لا لحاجة كانت منه إلى ذلك ، ولا لفضل منزلة لم يبلغها إلا به ، ولا رأى لنفسه فيما خَلَق زيادةً ولا نقصاناً ، تعقل هذا يا عمران؟ قال: نعم والله يا سيدي.[1]
ولم تنتهِ هذه المناظرة إلا بعد انقطاع أسئلة أرباب الديانات والمذاهب وبطلان جميع حججهم ، وتوِجَّتْ ختامها بإعلان عمران الصابي إسلامه وإقراره بعقائد الإسلام الحقة.
يقول الحسن بن محمد النوفلي: فلما نظر المتكلمون إلى كلام عمران الصابي وكان جدلاً لم يقطعه عن حجته أحد منهم قط ، لم يدنُ من الرضا (عليه السلام) أحد منهم ، ولم يسألوه عن شيء ، وأمسينا ، فنهض المأمون والرضا (عليه السلام) فدَخَلا ، وانصرف الناس.
وجاء في التواريخ بأن داود (عليه السلام) رأى من قصره امراة تغتسل فأعجبه حُسنها ، فسأل عنها ، فقيل أنها زوجة أحد عماله ، وافتروا عليه أنه أرتكب الفاحشة ليثبث فكرة “أن الأنبياء يرتكبون الخطأ ماعدا عيسى” ، ووصلت هذه الفكرة إلى أفكار المسلمين فأصبحوا يقولون أن الأنبياء يخطئون.
قال أبو الصلت الهروي: لما جمع المأمون لعلي بن موسى الرضا (عليه السلام) أهل المقالات من أهل الاِسلام والديانات من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين وسائر أهل المقالات ، فلم يَقُم أحد إلا وقد ألزمه حجته كأنه اُلقِم حَجَراً ، قام إليه علي بن محمد بن الجهم فقال له: يا بن رسول الله! أتقول بعصمة الاَنبياء؟
قال (عليه السلام) : نعم. فقال ابن الجهم:
فما تعمل في قول الله عز وجل: {وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى}[2] ، وفي قوله عز وجل: {وَذَا النُّون إذ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نقدِر عَلَيه}[3] ، وفي قوله عز وجل في يوسف (عليه السلام) : {وَلَقَد هَمَّت بِه وَهَمَّ بِها}[4] ، وفي قوله عزوجل في داود (عليه السلام) : {وَظَنَّ دَاود أنَّما فَتَنَّاه}[5] ، وقوله تعالى في نبيه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) : {وَتُخفي في نَفسِكَ ما اللهُ مُبديهِ}[6]؟!
فقال الرضا (عليه السلام) : ويحَكَ يا علي اتقِ الله ولا تنسب إلى أنبياء الله الفواحش ، ولا تَتأول كتاب الله برأيك فإنّ الله عزّ وجلّ قد قال: {وَمَا يَعلمُ تَأوِيلَهُ إلاّ اللهُ والراسِخُونَ}[7].
أما قوله عز وجل في آدم: {وعصى آدم ربه فغوى} ، فإن الله عزوجل خلق آدم حجة في أرضه وخليفة في بلاده ، لم يخلقه للجنة ، وكانت المعصية من آدم في الجنة ، لا في الأرض ، وعِصمته يجب أن تكون في الأرض ليتم مقادير أمر الله ، فلما اُهبط إلى الأرض وجُعِل حجة وخليفة عُصم بقوله عزّ وجل: {إنَّ اللهَ اصطَفى آدَمَ ونُوحاً وآل إِبراهيمَ وآلَ عمرانَ على العالَمِين}[8].
وأما قوله عز وجل: {وَذَا النُّون إذ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نقدِر عَلَيه} ، إنّما ظن بمعنى استيقن أن الله لن يضيِّق عليه رزقه ، ألا تسمع قول الله عز وجل: {وأَمَّا إذا مَا ابتلاَه رَبه فَقَدَرَ عليهِ رِزقَه}[9] ؛ أي ضَيَّق عليه رزقه ، ولو ظن أن الله لا يقدر عليه لكان قد كفر.
وأما قوله عز وجل في يوسف: {وَلَقَد هَمَّت بِه وَهَمَّ بِها} ، فإنّها هَمَّتْ بالمعصية وهَمَّ يوسف بقتلها إن أجبرته لعِظَم ما تَداخله ، فصَرَف الله عنه قتـْـلَها والفاحشة ، وهو قوله عز وجل: {كَذَلِكَ لِنصرِفَ عَنهُ السُّوءَ والفَحشَاءَ}[10] ؛ يعني القتل والزنا.
وأما داود (عليه السلام) فما يقول مَن قبْلُكم فيه؟
فقال علي بن محمد بن الجهم: يقولون إن داود (عليه السلام) كان في محرابه يصلي ، فتصَوَّر له إبليس على صورة طير أحسن ما يكون من طيور ، فقَطَع داود صلاته ، وقام ليأخذ الطير ، فخَرج الطير إلى الدار ، فخرج الطير إلى السطح ، فصّعد في طلبه ، فسقط الطير في دار أوريا بن حنان ، فاطلع داود في أثر الطير فإذا بامرأة أوريا تغتسل ، فلما نظر إليها هواها ، وكان قد َخرج أوريا في بعض غزواته ، فكتَب -داود (ع)- إلى صاحبه أن قَدِّم أوريا أمام التابوت ، فقُدِّم ، فظَفر أوريا بالمشركين ، فصَعب ذلك على داود ، فكتَب إليه ثانية أن قّدِّمه أمام التابوت ، فقُدِّم فقُتِل أوريا ، فتَزوج داود بامرأته.
قال : فضرب الرضا (عليه السلام) بيده على جبهته ، وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون ، لقد نسبتم نبياً من أنبياء الله إلى التهاون بصلاته حين خرج في أثر الطير ، ثم بالفاحشة ، ثم بالقتل!! فقال: يا بن رسول الله! فما كان خطيئته؟
فقال (عليه السلام) : ويحَك ، إنَّ داود إنما ظن أن ما خلق الله عز وجل خلقاً هو أعلم منه ، فبَعث الله عز وجل إليه الملكين ، فتسورا في المحراب ، فقالا: {خَصمَانِ بَغَى بَعضُنَا عَلَى بعضٍ فاْحْكُمْ بَينَنَا بالحقِّ ولا تُشطِط واهدِنَا إلى سَوَاء الصِّراط ، إنَّ هَذا أَخي لَهُ تِسعٌ وتِسعُونَ نَعجَةً ولي نَعجَةٌ واحِدَةٌ فَقَالَ أَكفِلْنيها وَعزَّنِي في الخِطَابِ}[11] ، فعجل داود (عليه السلام) على المُدَّعَى عليه فقال:
{لَقَدَ ظَلَمَكَ بِسؤالِ نَعجَتِكَ إِلى نِعَاجِهِ}[12] ، فلَم يسأل المُدَّعي البينة على ذلك ، ولم يَقبل على المُدَّعَى عليه فيقول له: ما تقول؟ فكان هذا خطيئة رسم الحكم لا ما ذهبتم إليه ، ألا تسمع الله عز وجل يقول: {يا دَاوُدُ إنَّا جَعَلنَاكَ خَليفَةً في الأرضِ فاْحْكُمْ بينَ النَّاسِ بالحقِّ وَلا تَتَّبِع الهَوَى}[13] إلى آخر الآية.
فقال: يا بن رسول الله! فما قصته مع أوريا؟ فقال الرضا (عليه السلام) :
إنَّ المرأة في أيّام داود (عليه السلام) كانت إذا مات بعلها أو قُتل لا تَتزوج بعده أبداً ، وأوّل من أباح الله له أن يتزوج بامرأة قُتل بعلها كان داود (عليه السلام) ، فتَزوج بامرأة أوريا لما قُتل وانقضت عدتها منه ، فذلك الذي شَقَّ على الناس من قبل أوريا.
وأما محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وقول الله عز وجل: {وَتُخفي في نَفسِكَ ما اللهُ مُبديهِ وَتخشَى النَّاس واللهُ أحقُّ أن تَخشاه}[14] ، فإنَّ الله عز وجل عَرَّف نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أسماء أزواجه في دار الدنيا ، وأسماء أزواجه في دار الآخرة ، وأنهن أُمّهات المؤمنين ، وإحداهن مَن سمَّى له زينب بنت جحش ، وهي يومئذ تحت زيد بن حارثة ، فأخفَى اسمها في نفسه ـ ولم يُبدِه لكيلا يقول أحد من المنافقين:
إنَّه قال في امرأة في بيت رجل إنَّها إحدى أزواجه من أُمَّهات المؤمنين ، وخَشي قول المنافقين ، فقال الله عزّ وجل: {وَتخشَى النَّاس واللهُ أحقُّ أن تَخشاه} ؛ يعني في نفسك ، وإن الله عزّ وجل ما تولى تزويج أحد من خلقه إلاّ تزويج حواء من آدم (عليه السلام) وزينب من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: {فَلَمَّا قَضَى زَيدٌ مِنهَا وطراً زوَّجنَاكهَا} الآية ، وفاطمة من علي (عليهما السلام).
قال: فبكى علي بن محمد بن الجهم فقال: يابن رسول الله! أنا تائب إلى الله عز وجل من أن أنطق في أنبياء الله بعد يومي هذا إلاّ بما ذكرتَه[15].
بحضرتك يالرضا خذّني ،، وكفِّف دموعي من وجنتي ،، جئتك قاصداً بقلبي ،، رجيتك تقضي مطلبي . (السلام عليك يا شمس الشموس وغريب الغرباء يا ساكن أرض طوس .. يا بعيد المدى يا علي بن موسى الرضا .. ورحمة الله وبركاته)
___________________
المصادر:-
“1” بحار الآنوار ج10ص300-التوحيد للصدوق ص418.
“2” سورة طه: الآية 121.
“3” سورة الاَنبياء: الآية 87.
“4” سورة يوسف: الآية 24.
“5” سورة ص: الآية 24.
“6” سورة الاَحزاب: الآية 37.
“7” سورة آل عمران: الآية 7.
“8” سورة آل عمران: الآية 33.
“9” سورة الفجر: الآية 16.
“10” سورة يوسف: الآية 24.
“11” سورة ص: الآية 22 و23.
“12” سورة ص: الآية 24.
“13” سورة ص: الآية 26.
“14” سورة الاَحزاب: الآية 37.
“15” عيون أخبار الرضا عليه السلام للصدوق: ج2 ص 170 ـ 173 ب 14.
للتعلیق أو مطالَعة التعلیقات اضغط هنا