من غرائب الإمام الحسن (ع) التكتيكية
جَـرَّعَته يدُ الزمانِ مراراً * أكؤساً مِلْؤها زعافٌ وعلقم
فابن هندٍ عليه جَرَّ جيوشاً * وأقاموا عليه أخبث ملحم
طعنَتْه بخنجرٍ يدُ بَغْيٍّ * إذ لساباط حينما كان أقدم
تَجَرَّع من كأس الحياة جراحاتِ الغدر والخداع ، وسموماً تتقلب في أحشائه بسم المنيّة ، فآهات القلوب المتفطرة فاضحة بالدموع لك يا مولاي باكية: تبّاً لأمة تجرأت عليك يا بن بنت رسول الله. تنعى مؤسَّسة أنبياء أولي العزم (عليهم السلام) صاحب الأمر والزمان أرواحنا لمقدمه الفداء ، بمصاب سيد شباب أهل الجنة الإمام المجتبى المسموم الحسن بن علي (عليهما الصلاة والسلام).
موضوعنا بقلم سماحة السيد أمين حفظه الله:
* * *
قال الإمام الحسن (عليه السلام): [والله لو قاتلتُ معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعوني إليه سِلْماً ، فو الله لأن اُسالمه وأنا عزيز خير من أن يقتلني وأنا أسير ، أو يَمُنَّ عليَّ فتكون سُبـّة على بني هاشم إلى آخر الدهر ، ومعاوية لا يَزال يَمنُّ بها وعقِـبه على الحي منا والميت]. الاحتجاج للشيخ الطبرسي رحمه الله: ج2 صـ290.
من هذه الركيزة النافذة جاءت سياسة الإمام الحسن (عليه السلام) في صلحه مع معاوية بن أبي سفيان ؛ ذلك لأن مواجهة معاوية كانت تعني تسييد معاوية على الأمة بعد فتكه بالإمام الحسن بأسره له ، فمعاوية ليس كيزيد في سفاهته ، فيزيد كان لا يرتاب في أن يقتل الإمام الحسين أو غيره من الأئمة الأطهار (عليهم السلام) ، بينما ليس من دأب معاوية المستعمل للسياسة أن يقوم بمثل هذا التصرف الهجين الذي يهدم مُلكه وسلطانه لا محالة.
إن الإمام الحسن (عليه السلام) كان يعيش آنها مرحلة الخيبة والخذلان في الأمة ، لدرجة أن جيشه بأغلبه كان يَتعاطى الرشاوى من معاوية القابع في الشام ، وبالدرجة التي يُطعَن فيها الإمام الحسن (عليه السلام) قائد الجيش وخليفة المسلمين بخنجر وتُنزع منه عباءته ويُشتَم وهو في وسط جيشه الهائلة المتّزي بالسلاح.
لذا لم يكن أمامه (صلوات الله وسلامه عليه) إلا أن يقوم ببعض الحلول التكتيكية ليقطع الطريق أمام معاوية وشجرة بني أمية.
ثم إنه قد يجد من يقرأ كلمة الإمام الحسن (عليه السلام) هذه التي ذكرناها ، قد يجد من يقرأها للوهلة الأولى أن الإمام الحسن (عليه السلام) كان يهتم بنفسه وعشيرته ويجعل ذلك مهمته الأولى وفوق كل مصالح الدِّين والأمة.
لكن ما أن يتأمل القارئ جيداً إلا ويجد أن الإمام الحسن (عليه السلام) كان فطناً وذكياً وإماماً ريادياً بكل معنى الكلمة ، وأن هدفه كان مصلحة الإسلام والمسلمين لا غير ؛ ذلك لأن أقل ما يمكن أن نشير إليه في سياسته هذه هو أن الإمام الحسن (عليه السلام) لو حارب معاوية في تلك الظروف المتداخلة ، فقدّمه الخونة من جيشه لمعاوية أسيراً بكل سلمية بقاعدة الرشاوى والخيانة ؛ لانتهى معاوية أقلها لأمرين حتميين سيكلفان الأمة سقوطاً ذريعاً ، وهما:
الأول: تسييد معاوية بشكل كامل على البلاد الإسلامية والمسلمين.
الثاني: اكتساب معاوية فضيلة على بني هاشم سادة العرب والمسلمين ؛ مما سيؤدي للمنّة عليهم بذلك وتعييره لهم بها هو وذووه من شجرة بني أمية ؛ وفي هذا ما فيه كما لا يخفى على كل فاحص ومتأمِّل.
فالإمام الحسن (عليه السلام) استطاع أن يحول الهزيمة إلى نصر كبير ، كما استطاع أن يحافظ على خط المقاومة بدل أسره وانتصار معاوية بلا قيود ، حيث استطاع (عليه السلام) من خلال الصلح أن يجَعْل القيود المعيقة لسلطة معاوية بشكل مطلق بفعل ما تضمّنه الصلح من بنود ، وإن كان معاوية لم يلتزم ببنود الصلح واقعياً ، إلا أنه أقلها بقي شكلياً في أعين المسلمين أمام حاجز كبير يقيد قبضته ويحدد نفوذه ويرعبه تجاه ارتكاب الأخطاء التي قد يتولد عنها هيجان عارم لدى الناس ضده ، وهذا بذاته كان شَكـَّل مانعاً أمام معاوية عن أن يمارس أشياء أكثر مما مارسها في أيام سلطته ، وإلا لَعَلِمَ الله وحده ما كان سيَصنع هذا الرجل بالدِّين والأمة أكثر مما صَنَع ؛ وهذه العائدة بالتالي تمثّل النتيجة المرتبطة بمصلحة الدِّين والأمة ، ونافياً لتَوَهــُّم أن الإمام الحسن (عليه السلام) يظهر من كلمته بأن مصلحته الشخصية هو وعشيرته فوق كل شيء.
هذا من جهة الغاية من الأمر الأول وفائدته ، وأما الأمر الثاني ففائدته في الدلالة على أن مصلحة الإسلام والأمة كانت الركيزة الأولى عند الإمام الحسن (عليه السلام) في كلمته المذكورة ، هي:
أنّ نفس الحفاظ على مكانة وكرامة بني هاشم ، ومَنْع مِنّة معاوية وبني أمية أن تتحقق في صفحة التأريخ على السادات من الهاشميين ، هي بذاتها إنما يريد بها (عليه السلام) مصلحة الدين والأمة من منطلق أن بني هاشم يشَكــِّـلون الحامي الأول للدِّين والمسلمين كما لا يخفى ؛ وهذا هو أحد أهم الأسباب التي جعلت من الله تعالى يختصهم ببعض الأحكام التي اتفق عليها كافة العلماء والفقهاء من أفضلية بني هاشم وتقديمهم واختصاصهم ببعض التشريعات التي لا تجري في غيرهم من الناس.
السلام عليك يا سبط نبي الرحمة وسيد شباب أهل الجنة ورحمة الله وبركاته
عظم الله لكم الأجر وأحسن لكم العزاء
أمين السعيدي – 7 صَفَر 1434هـ
قم المقدسة
للتعلیق أو مطالَعة التعلیقات اضغط هنا