مواقف وأسالبب الإمام الجواد(ع) تجاه المذاهب الفكرية في زمانه
طرح وتقديم طالبة العلم العضوة الفاضلة: 【يا صاحب الزمان】
مراجعة وتصحيح سماحة: السيد أمين السعيدي حفظه الله
هذا الجواد أتى وقد كشف القناع ** والفكر أضحى ترجمـاناً من شعاع
ياسائلاً عني إلى من أحتمــــــي *** إني ألوذ بالجــــــــــواد وأرتـمــي
ولمذهب العشـــــــاق إني أنتمي *** القلب يــَـكتب مِـدحتي معه فمي
قلبي كتابٌ نير ٌ عشقي يــَــراع ** والفكر أضحى ترجماناً من شعاع
نور تــَوهــَّج في غسق الدجى يضيء بجودكَ سيدي ،، وقفنا ممدِّدين اليدين نحو بابكَ مولاي ،،
ها قد أتينا عطاشى عشقكَ ،، للري من فيض عطائكَ سيّـدي ،، يا ذا الجود والعطاء خذ بخدامكم في (جماعة أنبياء أولي العزم”ع”) ليزفوا البـِشـْـرَ مبسماً على شفاه صاحب الأمر وولي الزمان صلوات الله وسلامه عليكم ، فنمتزج بشذى عطره ، ونصافحه والحب أنشودتنا ، لنهديكم أجمل معانينا ونـَعتزف من همس تهانيكم .. “فبوركتم”.
لم يـَـكتفِ الإمام محمد بن علي الجواد “عليهما السلام” في دفاعه عن مبدأ الإمامة ما لم يكن مطعَّـماً بمبدأ التوحيد ، في قبال التجسيم صنم الثقافة العباسية خلف أسوار الدولة الإسلامية ، حيث في عصر الإمام “عليه السلام” بدا جلياً ظهور المذاهب الكلامية والعقائدية ، إذ أخذتْ بالانتشار في أرجاء الدولة.
لقد بدا تــَـمَـوّج الأمة في ضَـلال تيارات عقائدية وفكرية عديدة ؛ فمن مشبهة إلى معطلة إلى مجبرة إلى غير ذلك من العقائد الباطلة والدعاوى الخرافية والمنحرفة التي أثيرت في عصره “سلام الله عليه” ؛ فكان أبرز دور له ما قدمه من مواقف لترسيخ العقيدة الإسلامية والدفاع عنها وتصحيح المعتقدات من التصورات الخاطئة التي حول أصول الاعتقاد.
كان الإمام علي بن موسى الرضا “عليهما السلام” قد تمتـــَّع بفرصة الحوار مع اُولئك المجسِّمة من المسلمين وغيرهم من أهل الديانات الاُخرى: يهودية ونصرانية ومجوسية وغيرها ، حيث اغتــَـنمَ فرصة المحاورات الرسمية التي عقدها المأمون لإظهار فضل الإمام الرضا “عليه السلام” ومقامه العلمي دون قصد ، وتصويب رأيه في اختياره الموفق للإمام ولياً للعهد ، واليوم خليفته الجواد “عليه السلام” يعتلي منصّة الحوار ، ويلقي من نظريات التوحيد ما توقــــّـف معه ……
ففي رواية داود بن القاسم الجعفري قال: قلت لأبي جعفر الثاني “عليه السلام”: {قــُـلْ هــُوَ اللـــَّـهُ أَحَـدٌ} [1] ما معنى الأحد؟
قال: «المُجــْـمَع عليه بالوحدانية ، أمَا سمعته يقول: {وَلَـئِـن سَـأَلــْـتــَـهُم مَّنْ خَـلــَـقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَسَخــَّـرَ الشــَّـمْسَ وَالــْـقــَمَرَ لــَـيــَـقــُولــُـنَّ الله}؟ [2] ثم يقولون بعد ذلك: له شريك وصاحبة!».
فقلت: قوله: {لا تــُــدْرِكُـهُ الأَبـْصَارُ} ؟ [3]
قال: «يا أبا هاشم ، أوهام القلوب أدقّ من إبصار العيون ، أنت قد تدرِك بوهمِـك السِند والهند والبلدان التي لم تدخلها ، ولم تدرِك ببصرِك ذلك ، فأوهام القلوب لاتدركه ، فكيف تدركه الأبصار!» [4].
وعندما سُـئل من قِـبـَـل عبد الرحمن بن أبي نجران عن التوحيد حين قال له: أتوهّم شيئاً ؟
أجابه الاِمام “عليه السلام” : « نعم ، غير معقول ولا محدود ، فما وقع وهمك عليه من شيء فهو خلافه ، لا يشبهه شيء ، ولا تدركه الاَوهام.
كيف تــُـدركه الأوهام وهو خلاف ما يــُعقل ، وخلاف ما يـُـتصوَّر في الاَوهام؟! إنّما يـُـتوهّم شيء غير معقول ولا محدود» [5].
ولما سُـئل “عليه السلام” أيضاً عن الباري تبارك وتعالى أنه يجوز أن يقال له: إنّه شيء؟
قال: « نعم ، يُخرجه من الحدين: حدّ التعطيل ، وحدّ التشبيه» [6] ؛
يــَـقصد “عليه السلام: أن لا يَمنع صفته فهو موصوف بصفات الكمال والجلال كما وَصف نفسه سبحانه ، فلا يقال بأنه لا يمكن وصفه ولا يمكن إدراك صفاته بتاتاً ، بل يوصَف بما وَصف به نفسه سبحانه ، ولكن لا يـُشبــَّـه بالمخلوقين أو بما يتوهَّم من صور ذهنية ، فالصفات إنما صفاة كمالية أخلاقية وليست وصفاً لذاته تعلى من حيث التكوين ؛ إذ لا ذات له توصَف من جهة التكوين ، فهو مجرَّد ليس كمثله شيء أبداً ، فلا شبيه له ليشبــَّـه به ،
فإنه كما وجــِـدَتْ فرق تـــُـشـَبـِّه الله وتــُجَسـِّمه كذلك وجــِـدَ من منع وصفه وقال بعدم إمكان إدراك حتى صفاته الكمالية كالقادر والحكيم والحي والقيوم والعالم و…
وفي الكافي ورَدَ أن عبد الرحمن بن أبي نجران كتب إلى أبي جعفر “عليه السلام” أو سأله قائلاً: «جعلني الله فداك ، نعبد الرحمن الرحيم الواحد الاَحد الصمد؟
فقال: إنّ من عبد الاسم دون المسمّى بالاَسماء أشرك وكفر وجَحد ، ولم يَعبد شيئاً ، بل اعبُـدْ الله الواحد الأحد الصمد المسمّى بهذه الأسماء ، دون الأسماء ؛ إنّ الأسماء صفات وَصف بها نفسه» [7].
وفي إطار الأسماء والصفات لله تبارك وتعالى ، يسأله داود بن القاسم أبو هاشم الجعفري عن معنى الواحد ؛ فيجيبه الاِمام “عليه السلام” قائلاً: « إجماع الألسن عليه بالوحدانية ، كقوله تعالى: {ولــَـئِـن سألتــَـهُم مَّن خَـلــَـقــَـهُم لــَـيقولــُـنَّ الله} » [8].
وروى داود بن القاسم أبو هاشم الجعفري أنّ رجلاً ناظر الاِمام الجواد “عليه السلام” في أسماء الله تعالى وصفاته ، فقال: «كنتُ عند أبي جعفر الثاني “عليه السلام” فسأله رجل فقال: أخبرْني عن الربِّ تبارك وتعالى ، له أسماء وصفات في كتابه؟ وأسماؤه وصفاته هي هو؟
فقال أبو جعفر “عليه السلام” : إنّ لهذا الكلام وجهين:
إن كنتَ تقول: هي هو ؛ أي أنه ذو عدد وكثرة ؛ فتعالى الله عن ذلك .
وإن كنتَ تقول: هذه الصفات والأسماء لم تــَـزَل فإنّ ( لم تــَـزَل ) محتمل معنيين: فإن قلتَ: لم تــَـزل عنده في علمه وهو مستحقها ؛ فنعم .
وإن كنتَ تقول: لم يــَـزل تصويرها وهجاؤها وتقطيع حروفها ؛ فمعاذ الله أن يكون معه شيء غيره ، بل كان الله ولا خــَـلــْـق ، ثم خلقها ـ أي الاَسماء ـ وسيلة بينه وبين خلقه يــَـتضرّعون بها إليه ، ويعبدونه وهي ذكره.
وكان الله ولا ذِكر ، والمذكور بالذِكر هو الله القديم الذي لم يــَـزل ، والأسماء والصفات مخلوقات . والمعاني والمعنيُّ بها هو الله الذي لا يليق به الاختلاف ولا الائتلاف ، وإنّما يــَـختلف ويـأتلف المتجزّئ ، فلا يقال: الله مؤتلـِـف ، ولا: الله قليل ، ولا كثير ، ولكنه القديم في ذاته ؛
لاَنّ ما سوى الواحد متجزّئ ، والله واحد لا متجزئ ، ولا متوهــَّـم بالقلة والكثرة ، وكلّ متجزئ أو متوهــَّم بالقلة والكثرة فهو مخلوق دالٌّ على خالقٍ له.
فقولك: ( إنّ الله قدير ) ، خبَّـرتَ أنه لا يعجزه شيء فنفيت بالكلمة العجز ، وجعلت العجز سواه . وكذلك قولك : ( عالـِـم ) ، إنّما نفيت بالكلمة الجهل ، وجعلت الجهل سواه . وإذا أفنى الله الأشياء أفنى الصورة والهجاء والتقطيع ، ولا يــَـزال من لم يــَـزَل عالماً.
فقال الرجل: فكيف سمّينا ربّـنا سميعاً ؟
فقال الاِمام “عليه السلام” : لأنه لا يـَـخفى عليه ما يُدرَك بالأسماع ، ولم نصفه بالسمع المعقول في الرأس ، وكذلك سميناه بصيراً ؛ لاَنّه لا يخفى عليه ما يُدرَك بالأبصار مِـن لون أو شخص أو غير ذلك ، ولم نصفه ببصرِ لحظة العين.
وكذلك سمّيناه لطيفاً لعلمه بالشيء اللطيف مثل البعوضة وأخفى من ذلك ، وموضع النشوء منها ، والعقل والشهوة للسفاد والحدب على نسلها ، وإقام بعضها على بعض ، ونقلها الطعام والشراب إلى أولادها في الجبال والمفاوز والاَودية والقفار . فعلمنا أنّ خالقها لطيف بلا كيف ، وإنـــّـما الكيفية للمخلوق المكيــَّـف.
وكذلك سمّينا ربّنا قوياً لا بقوة البطش المعروف من المخلوق ، ولو كانت قوته قوة البطش المعروف من المخلوق لــَـوَقع التشبيه ولاحتمل الزيادة ، وما احتمل الزيادة احتمل النقصان ، وما كان ناقصاً كان غير قديم ، وما كان غير قديم كان عاجزاً.
فربّنا تبارك وتعالى لا شبه له ولا ضدّ ، ولا ندّ ، ولا كيف ، ولا نهاية ، ولا تبصار بصر . ومحرّم على القلوب أن تــُمثـــّـله ، وعلى الاَوهام أن تحدّه ، وعلى الضمائر أن تــُـكـوّنه جلّ وعزّ عن أداة خلقه ، وسمات بريــّـته ، وتعالى عن ذلك علوّاً كبيراً» [9].
ثم إنه ورد في رجال الكشي عن علي بن مهزيار قال: « سمعتُ أبا جعفر “عليه السلام” يقول ـ وقد ذُكـِـر عنده أبو الخطــّـاب [10] ـ : لعن الله أبا الخطــّـاب ، ولعن أصحابه ، ولعن الشاكــّـين في لعنه ، ولعن من وَقـف فيه ، وشك فيه … » [11].
وبالاِضافة إلى لعن الاِمام “عليه السلام” لأبي الخطــّـاب وأصحابه ، فإنــّه “عليه السلام” وَقـف موقفاً حاسماً من الفرقة الواقفية وغيرها . فقد أورَد الكشي بسنده عن محمد بن رجاء الحنـــّـاط ، عن محمد بن علي الرضا “عليه السلام” أنــّه قال: «الواقفة حمير الشيعة ،
ثم تلا قوله تعالى: {إنْ هــُم إلا كالاَنعامِ بل هــُم أضَلُّ سبيلاً} » [12].
كما تجلّى موقفه الحاسم هذا في نهيه عن التعامل مع الفـَـطـَحية والواقفة ولم يُجوِّز الصلاة خلف أحدهم [13].
ففي واقع إسلامي أغرقته نظريات المتفلسفين القادمة ضمن حملات الترجمة التي بدأها المأمون في جلب الكثير من كتابات الروم الفلسفية ، وتوجّهات الهند القصصية ، ومساعي الفرس الأدبية ، فضلاً عن ثقافات أهل الصين ، ومحاولات الترك ، ونزعات البربر ، وفنون اليونان ، وغيرها من تجسيمات اليهود ، وتثليث النصارى ، واختلافات أهل المِـلـــّـة ،
كل هذه الثقافات أربــَـكت عقلية الفرد وأودت بالجماعة الإسلامية إلى تــَـقـمّصات هذه الثقافات الجديدة غير الواعية في معرفة صفات الله تعالى ، فخلطتْ بين صفات الذات وصفات الفعل ، وأثبتتْ من صفات التنزيه ما كان ينبغي أن تجلّ عنه الذات وتوصف به أفعاله تعالى ، وانزلق المجتمع الإسلامي إلى مهاوي التشبيه ومحاولات الإلحاد ،
حتى كان للإمام الجواد وقبله والده الإمام الرضا “عليهما أفضل الصلاة والسلام” الأثر الأكبر في صدّ عادية هذه التيارات الفكرية المنحرفة.. وأنت تــَـرَى ما لهذه الاُسس التوحيدية في كلام الإمام الجواد “صلوات الله وسلامه عليه” من أثر في انتشال المدرسة الإسلامية من مخاطر الانحراف الفكري القادم.
سيدي! يشذو إليك القلب كالطير ناشداً أهازيج الولاء ،، مرفرِفاً في سماءك العلياء ،، فوق قبتك الزاهرةِ النوراء ،، راجياً جودك مولاي ،، فخذّ بأيدينا إننا نرتجي منكَ العطاء ،، أشفع لنا يا جواد الأئمة ويا باب المراد هاهنا نطرق باب الرجاء ..
سيدي! إن الروح مستفيضة بالإعياء ،، والجسد أنهكته الأعباء ،، فهلا دَفعت عني بمشيئةِ اللهِ الأدعياء؟
((بوركتم أيها الأحبة .. وكل عام وأنتم بخير))
_______
المصادر:
[1] سورة الاخلاص: 1.
[2] سورة العنكبوت: 61.
[3] سورة الأنعام: 103.
[4] الاحتجاج: 2/465 – البحار: 4/39 ح 17.
[5] اُصول الكافي 1: 82 | 1 باب إطلاق القول بأنه شيء من كتاب التوحيد.
[6] اُصول الكافي 1: 82 | 2 – وراجع: التوحيد للصدوق: 107.
[7] اُصول الكافي 1: 87 | 3 باب المعبود من كتاب التوحيد.
[8] اُصول الكافي 1: 118 | 12 . والآية من سورة الزخرف: 43 | 87.
[9] اُصول الكافي 1: 116 | 7 – وراجع: التوحيد للصدوق: 193 .والاحتجاج للطبرسي: 2/467 ح321 – البحار: 4/153 ح1.
[10] أبو الخطــّـاب: هو محمد بن أبي زينب مقلاص الأسدي الكوفي الأجدع.
كان في بادئ أمره من أصحاب الاِمام الصادق “عليه السلام” ، ثم انحرَف عن خط أهل البيت “عليهم السلام” ، بل وعن الدِّين ، فأخَذ يَنسب أباطيله وعقائده الفاسدة إلى الاِمام الصادق “عليه السلام” كذباً وزوراً ، وتبعه عدد من المضلّلين والنفعيِّين حتى شَكَّلوا فرقة سمّيت فيما بعد بالخطّابية.
من عقائدهم زعموا أن الصلاة والصيام والتكاليف الاُخرى ، والخمر والزنا والسرقة وغيرها هي أسماء رجال ، والآيات القرآنية الآمرة بأداء تلك الأعمال والناهية عنها ، إنّما هي آمرة بمحبة أولئك الرجال أو النهي عن محبتهم فقط ، كما أظهروا كثيراً من البدع والضلالات والاِباحات ، حتى وصل بهم الأمر إلى الدعوة إلى نبوّة أبي الخطاب.
بــَـعث إليهم والي المدينة جيشاً ـ بعد أن استفحل أمرهم ـ فقاتلوهم حتى أبادوهم عن آخرهم إلا رجلاً واحداً منهم نجا من القتل.
[11] اختيار معرفة الرجال: 528 | 1012.
[12] سورة الفرقان: 25 | 44.
[13] راجع : تهذيب الاَحكام 3: 28 | 98.
للتعلیق أو مطالَعة التعلیقات اضغط هنا