ميزان الحقوق عند ميزان العدالة عليٍّ عليه السلام
طرح وتقديم العضوة: 【يا صاحب الزمان】
مراجعة وتوضيح: سماحة مرشد المؤسّسة السيد أمين حفظه الله
من هنا..
من مصدر الوجود ومبعث الرسالات، يبدأ الإمام في فلسفة الوجود، ولا يحاول – مطلقاً – أن يُفـَـبْـرك فلسفة مستقلة، وإنما يتابع الرحلة التي صدح بها القرآن منذ بدأ القرآن رحلته إلى الأرض إلى أن بلغ ختامه، ويواكب سير الرسالة منذ أن دَثــَّـر اللهُ رسولَه بالوحي إلى أن خلع الحياة. وإن كان – في بعض الأحيان – يبدو أنه ينسج من جديد، ولكن – لدى التحقيق والمقارنة – يظهر أنه يستقي من: الضمير القرآني المجيد، والعمق الرسالي الرشيد. وإن يكن – هناك – أي زهوق أو مروق.
ففلسفة الوجود واحدة: عبر عنها القرآن بأسلوبه الدستوري، وعبر عنها الرسول بأسلوبه التأسيسي، وعبر عنها الإمام بأسلوبه التركيزي. أما سائر الفلسفات الأخر: فإنها تعاني من التخلف أو التجاوز، وفي كلتا الحالتين لا تَـطابق بينها وبين الواقع.
وفلسفة الوجود الصحيحة التي عبر عنها الإمام هي التي انبثقت عن الله عز وجل، ولكنها ما انفصلت عنه بالمزايلة – حسب تعبير الإمام – فكل شيء – مهما كان صغيراً أو كبيراً – جزء من الكون، اندفع إلى الوجود وفق فلسفته العامة، فهو يعطي للحياة ويأخذ من الحياة. فلا ينظر إليه -أي إلى ذلك الشيء- باعتبار حجمه، وإنما ينظر إليه باعتباره طرفاً متعامِلاً مع الكل، فله احترام الكل؛ أَوَلم يقل القرآن: {… مَنْ قَتَلَ نفساً بغيرِ نَفْسٍ، أو فَساداً في الأرضِ فكأنَّما قَتَلَ الناسَ جميعاً ومن أَحْياها فكأنَّما أَحيا الناسَ جميعاً}(1)؟
فقوة الوجود تَمنح لكل صغير نصيبه من الرعاية بنفس الاهتمام الذي تعطي به نصيب الكبير: فللنبتة الزاحفة من الاهتمام بقدر ما للدوح العتي، ولصغار الحشرات وزغب الطيور ما لسباع الصحراء ونسور الفضاء…
أَوَليس الله {أَعْطَى كلَّ شيءٍ خَلْقَه، ثُمَّ هَدَى}(2) {وأَتْـقَـنَ كلَّ شيءٍ}(3)؟
وأقَل حق يوفر على المخلوق – وخاصة إذا كان ذا حياة – أن يوفر له حق الحياة، فلا ينازَع في ما يمسِك عليه حياته، فـ(لكل ذي رَمَقٍ قــُوْت) و(لكل حَبـَّـةٍ آكِل) كما قال عليه السلام…
وعندما تكون الجناية على ضعيف لا يقاوِم، وعندما تكون الجناية من أجل شيء بخسٍ لا يُغـْـرِي؛ تنقلب الجناية الصغيرة خيانة عظمى، لأنها تشويه لعدالة الله في الوجود، واعتداء على العدالة الكونية في نظره عليه السلام: (والله لو أعطيتُ الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها، على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلـْـبَ شعيرة، ما فعلته)!
فلا يؤخذ الكون بعين الشاعر -أي بعين مَن عنده شعور- التي تظهره في وحدة وجودية، ولا يؤخذ بمعمل العالم الذي يجزء كل شيء ويفرده لتكبيله وتحليله، وإنما يؤخذ الكون – كما هو – أجزاء متباينة مختلفة متعاونة. فعناصره المختلفة مترابطة مع بعضها، ولبعضها على البعض حقوق متكافئة: فإذا كانت الشمس تَمنح الوجود دفأً، فهي تأخذ منه ما يعوض استهلاكها، فلا يَصغر حجمها. وإذا كان البحر يرطّب الجو غيوماً، فهو يسترجع روافده عيوناً وأنهاراً، فلا يَـنْضَب ولا يجف، وإذا أَخَذت الوردة من الهواء والنور، فهي تَدفع اليهما من عطرها ولونها بمقدار ما أَخَذت منهما…(بالحق قامت السماوات والأرض).
قال الإمام عليه السلام
ولكل شيء دور لابد له من القيام به، وإلا كان ميتاً استهلكته الأحياء بسرعة كبيرة، في عمليات التطهير الدائبة في الكون. وبيْـن البشر – الذين هم من عناصر هذا الكون – نفس الحقوق المتكافئة بين جميع عناصره، القائمة على وِحْدَة هي: (الحق)، (ثم جَعَلَ – من حقوقه – حقوقاً لبعض الناس على بعض، فجَعلها تتكافأ في وجوهها، ويوجب بعضها بعضاً، ولا يستوجب بعضها إلا ببعض).
فمَن يعطي من نفسه الحق يأخذ الحق من نفوس الآخرين، ومَن يرفض الاعتراف بحقوق الآخرين لا يكون له في الحق من نصيب. ومَن أَخذ أكثر مما أعطـَى فهو ظالم، ومَن دفع أكثر مما أَخذ فهو مظلوم؛ فإذا تزاحمت النعم على فرد فهو لم يجمعها بقدرة قادر، وإنما هي حصيلة عناصر أخرى بشرية وغير بشرية؛ فعليه أن يرتفع – في تعامله مع سائر عناصر الكون – إلى ذلك المستوى، وإلا انسحبت عناصر الكون عن التعامل معه إلى مقدار تعامله معها:
(من قَبضَ يده عن الناس قبض عنهم يداً واحدة وقبضَتْ عنه أيدٍ كثيرة). و(إذا قبضَتْ عنه أيدٍ كثيرة، يبقى وحيداً لا يجيد إلا القليل).و(من كثرت نعم الله عليه كثرت حوائج الناس إليه، فمَن قام لله فيها بما يجب عرَّضها للدوام والبقاء، ومن لم يقم فيها بما يجب عرَّضها للزوال والفناء)(4).
هذه شذرات من فلسفة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، ونسبتها إليه كقطرة ماء من البحر المحيط، أو كباقة ورد من رياحين الدنيا، نقدمها بين يديك تشم منها عبق الولاء، وتنتشق من روائحها المودة لأهل البيت عليهم أفضل الصلاة والسلام.
فتهانينا لكم بالولادة الكريم ،، وأسعد الله أيامكم
——————————–
الهوامش:-
1-سورة المائدة: 32.
2-سورة طه: 50.
3-سورة النمل: 88.
4-نهج البلاغة، الحكمة رقم 364.
نقلاً من موقع تبيان عن محاضرة للسيد حسن الشيرازي، مع يعض الإضافات التوضيحية.
للتعلیق أو مطالَعة التعلیقات اضغط هنا