النظريات العالمية المطروحة في «صفات الذات الإلهية المقدَّسة»
� جواب سؤال علمي مقتبَس من “الزّاوية العقائديّة” على الفيسبوك ، جاء رداً من سماحة السيد أمين السعيدي على سؤال أحد متابعي الصفحة حول ذلك:
بسم الله الرّحمن الرّحيم
عليكم السّلام ورحمة الله وبركاته. النظريات متعددة في “صفات الله تعالى” التي هي بحثٌ كلاميٌ وعقليٌ ؛
❁ [النظرية الأولى]
فهناك من قال بأنها قضايا لا واقع لها ، ولا محل لها من الإعراب في العلم ، وهذه نظرية “الماديين” الذين ظهروا مؤخراً في عصر النهضة ، حيث يُخضعون كل شيء للتجربة الحسية المادية الخاضعة للحواس الخمس ؛ لذا قالوا بعدم إمكان إدراك الصفات الإلهية ؛ كونها مفاهيم عقلية لا يمكن إخضاعها للتجربة المادية.
وهي نظرية ساقطة باطلة أشد السقوط والبطلان ، بل هي أضعف النظريات ، وتَـؤول لمذهب السفسطة تجاه العقل المجرَّد وتعطيله وتعطيل المعقولات الكلية .. ، كما أنها نظرية متناقضة تنتهي إلى التناقض الصريح في مضمونها واُسسها ، حيث تنفي المفاهيم العقلية ، وهي أساساً -في الوقت نفسه- تقوم على المفاهيم العقلية ، فتعطي قواعد كلية من قبيل قولها: (كل شيء خاضع للتجربة المادية، وكل ما لا يخضع للتجربة فهو لا واقع له)! مع أن نفس هذه العبارة هي عبارة ذهنية مفهومية لا يمكن إخضاعها للتجربة ، فهي مجرد ألفاظ ومفاهيم مثلها مثل الصفات الإلهية التي هي ألفاظ ومفاهيم واقعية.
وهناك نظرية أخرى في المقابل ؛ وهي نظرية من قال بأن الصفات الإلهية قابلة للإدراك لا أنها غير قابلة للإدراك ، غاية الأمر أن الصفات الإلهية لا يمكن فهم كـُـنْهِها ، وبالتالي يجب “السكوت” في هذا المجال ؛ لذا تسمى بنظرية “السكوت”.
وهي نظرية باطلة أيضاً ؛ كونها تؤدي إلى تعطيل المعرفة بالله تعالى في حين أن الوجدان يقطع بإمكان معرفة صفاته وبأننا نعرفه بصفاته ونذكره بها ونشير له بها في دعائنا ونميِّز بين صفة وأخرى ؛ فمثلاً:
عند الفرح نناديه بالقول (يا كريم نحمدك ونشكر) ، وعند الظلم نناديه مثلاً بالقول (يا جبار انصرنا) ، وعند الذنب نناديه (يا غفور ارحمنا) وهكذا … ؛ فالعقل إذاً يدرِك هنا شيئاً يَفْهمه ، فنحن ندرك الصفات الإلهية ونميِّز بينها ، وهذا دليل وجداني واضح على معرفتنا بها ؛ مما يعني بطلان نظرية “السكوت” ونظرية “التجريبيين” الساقطة المنْـحَلّة. علماً أن هذه النظرية -نظرية السكوت- لها مؤسسين وأتباع أكابر ؛ منهم أفلاطون أحد كبار علماء اليونان ، وتبعه في ذلك “أفلوطين” مؤسس المدرسة الأفلوطينية صاحب كتاب “الأثولوجيا” ، وإن كان أفلوطين يقول في ذيل نظريته بإرجاع الصفات الإلهية إلى الصفات السلبية.
وهناك نظرية ثالثة ؛ وهي نظرية من قال بأن الصفات الإلهية قابلة للإدراك أيضاً ، لكن لا على نحو إدراكنا للصفات الكمالية الموجودة في الإنسان ، من العدل والعلم والقدرة والحياة وما شاكل ، وإنما على نحو آخر ، وهي ما يسمى بـ”نظرية التمثيل” ، بحيث يتم تقشير كل الزوائد من صفات الإنسان ثم نَسْبها لله تعالى على أتم وجه ؛ ورائدها هذه النظرية هو طوماس المعروف.
طبعاً هذه النظرية تخالف نظرية المجسِّمة الذين جسَّموا الله تعالى من أمثال ابن تيمية وغيره ، وإن قالوا بأن لله يد مادية تختلف عن يد الإنسان ، ووجه مادي يختلف عن وجه الإنسان من منطلق كونه تعالى ليس كمثله شيء!
❁ [النظرية الرابعة]
ثم بعد أفلوطين جاء العالم “موسى بن ميمون” الشهير الذي هو من أصل يهودي ، فقال بأن الصفات الإلهية قابلة للإدراك أيضاً ، فأَسَّس لنظرية إرجاع الصفات الإالهية إلى “الصفات السلبية” التي هي نظرية أفلوطين قديماً الموجودة في طيّات نظريته القائلة مثل أفلاطون بـ”السكوت” ، فموسى بن ميمون عمَّق نظرية “الصفات السلبية” واستَدل عليها ، وبيَّن سبب عدم إمكان إرجاع الصفات الإلهية إلى الصفات الثبوتية ، فعُرِفَ بهذه النظرية وصارت تُنسَب إليه.
هذه النظرية هي محل سؤالكم وكلامكم ، فهو يدور ضمن دائرتها.
ثمَّ إنّ الظّلام -الوارد في إشكالكم- له أصل وإن كان هو غياب الضّوء ، وإلا لو لم يكن للظلام أصل لما كان له تحقّق في الخارج. وكذا الشّر ، لو لم يكن له أصل لما كان له تحقّق وأثر وعوارض في الواقع ؛ لهذا قلنا أنَّ إشكال المستشكل على إرجاع الصفات الثّبوتيّة إلى السّلبيّة باستلزامه للعدم (قد) ، لاحظ نقول (قد) يُرد عليه بالقول:
إنَّ هذا لا يستلزم العدم ، وإلا لما كانت للصّفات السّلبيّة حقيقة ووجودٌ أيضاً ، مع أنّها حقيقةً من الصّفات الإلهيّة الفعليّة. فمثال الظّلم والشّر شبيه بما ذكرناه في مثال (موجود) إذا أرجعتها إلى (لا لا موجود) ، فصارت نفي للنّفي ، أو قل نفي للعدم ، أي غير معدوم ، وبالتّالي هل هذا يؤدّي للعدم؟ فأنت بقولك غير معدوم صفة سلبيّة أرجعت موجود -الصّفة الثّبوتيّة- إليها ، فغير معدوم يعني معدوم؟!
كلا ؛ لا يؤدّي ذلك للعدم ؛ فهو كما ترى نفي للعدم.
وعليه؛ فإنّ إرجاع الصّفات إلى غيرها في ظل وحدة الذّات قد يقال بعدم استلزامه للعدم ، ممّا دفع بالمُرجع للصّفات الثّبوتيّة إلى السّلبية لأن يقول بهذا الرّجوع.
طبعاً هذه النظرية -نظرية إرجاع الصفات الإلهية إلى الصفات السلبية- وإن كان “موسى بن ميمون” ذكر إشكالات على إرجاع الصفات إلى الثبوتية لا السلبية ، من قبيل: (تَعدد الذات الإلهية وكون وحدتها وحدة صورية لا حقيقية وهو أمر مستحيل) ، وكذا (تَحقق التركيب في ذات الله تعالى كالجسد المادي رغم اعتقادنا بتجردها لا بتركيبها) ، وكذا (تَعدد القدماء وهو مستحيل كون واجب الوجود -العلة الأولى في الوجود- واحد لا يمكن تعدده) ، وكذا (جريان العوارض على ذات الله سبحانه في ظل تركبه المستحيل) .. ؛ فإشكالات “موسى بن ميمون” وإن كنا نؤمن بالاستحالات المذكورة فيها إلا أنها إشكالات واهمة مردودة ، يمكن تجنبها بطرح نظرية أخرى سليمة ، كون نظرية الصفات السلبية عليها إشكالات هي أيضاً ، كما أن نفس النظريات الأخرى التي ذكرناها مردودة بالدليل القاطع والبرهان الساطع ؛ فنظرية “موسى بن ميمون” عليها ما عليها وإن كنا نسلم بالصفات السلبية الإلهية ونقول إن الله ليس بجاهل، وليس بمعدوم، ولا ظالم …
ثم بعد نظرية “الصفات السلبية” جاءت نظرية “الملا صدرا الشيرازي” رحمه الله صاحب كتاب الأسفار الأربعة ، والذي تقوم نظريته على أساس كون “الوجود هو الأصيل” ، وكون “مفهوم الوجود مفهوم مشكِّك مثله مثل النور الذي يتفاوت في مراتبه بين نور الشمس الشديد وبين نور المصباح الضعيف” ، حيث عالج “الملا صدرا” رحمه الله جميع الإشكاليات بهذه النظرية ، فمثَّلَت نظريته أدق النظريات وأتمها في مجال بحث الصفات الإلهية.
أسألكم الدّعاء ، وفّقكم الله لكل خير.
أمين السّعيدي
للتعلیق أو مطالَعة التعلیقات اضغط هنا